لو أن وزارة الثقافة اللبنانية جعلت حفلة اختتام «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» عيداً «شعبياً» في ساحة البرج - على سبيل المثل - لكانت منحت هذه المناسبة ما تستحقه من احتفاء وبعد رمزيّ، لا سيما أن الكتاب هو المعنيّ هنا، الكتاب الذي يجب - مبدئياً - أن يوحد اللبنانيين ولو وهماً، أو الذي ينبغي للبنانيين أن يلتفوا حوله ولو ظاهراً. لكن وزارة الثقافة لم تخرج عن الطابع التقليدي والخطابي تحديداً، لحفلات الاختتام التي يحتل منبرها أصحاب المقامات وهؤلاء غالباً ما يتحيّنون مثل هذه الفرص ليطلّوا أمام الكاميرات ويقطفوا جنى ما زرعه سواهم. ليس المقصود هنا طبعاً وزير الثقافة اللبناني، سليم وردة، هذا الوزير الشاب، المتحمّس والمبادر، فهو من حقّه أن يرفع شعلة هذه العاصمة في لحظة الاختتام، وفي يقينه، كما عبّر أخيراً، أنها ستظل متوقدة ولن تطفئها ريح التقاعس والبلادة واللامبالاة التي تهب دوماً من مكاتب الدولة ومن أروقتها. ليت وزارة الثقافة جعلت فعلاً حفلة الختام مناسبة عامة تجمع خلالها الطلاب والقراء والمؤلفين والفنانين والمثقفين على اختلاف مشاربهم، في احدى ساحات بيروت، فيشاركوا جميعاً في احياء هذه الحفلة. فالتظاهرة التي دامت أكثر من سنة تستحق مثل هذا العيد ومثل هذا اللقاء، فلا يكون وداعها أشبه بحفلة «تأبين» رسمية يشارك فيها - على سبيل المثل أيضاً - مَن لم يكن له علاقة ولو ضئيلة بها، بل مَن ليس له علاقة بما يسمّى كتاباً وثقافة. انتهت سنة بيروت العالمية للكتاب. الصفة العالمية لم ترسّخها في الغالب إلا مشاركة السفارات ومراكزها الثقافية في هذا الحدث. إذا حاولنا أن نتذكّر اسم كاتب عالمي زار بيروت هذه السنة فلن يتبادر الينا إلا اسم الكاتب الفرنسي لوكليزيو الفائز بجائزة نوبل للآداب. الأسماء الأخرى لم تعنِ الجمهور اللبناني ما خلا ميلتون حاطوم هذا الكاتب اللبناني الأصل المقيم في البرازيل والذي يكتب بلغتها. ومعروف ان لوكليزيو زار لبنان زيارة خاطفة في سياق معرض الكتاب الفرنسيّ. أما إذا حاولنا تذكر حدث عالمي فلن نتذكر إلا مهرجان «بيروت 39» الذي نظمه مهرجان «هاي فستيفل» البريطاني جاعلاً منه فسحة للأدباء العرب الشباب في هذه العاصمة. إلا أنّ الكاتبة والأكاديمية ليلى بركات التي تسلّمت ادارة المشروع قبل فترة وجيزة جداً من انطلاقه، على خلاف ما يحصل في الغرب حيث يتم الاستعداد للحدث قبل عامين، أدركت مسبقاً حجم التحدي الذي ستخوضه وحجم المشكلات التي ستعترضها، فغامرت ونجحت في مغامرتها وفي رهانها على المجتمع المدني الذي يتحرك في لبنان للمرة الأولى، في هذه الحماسة وهذا النشاط أو العطاء. وجعلتنا هذه الحماسة أو هذا النشاط غير المعهود سابقاً، نتيقن أن في لبنان قدرات هائلة يمكنها فعلاً أن تحل محل الثقافة الرسمية التي تظل في حال من «الاحتضار» الدائم. ويمكن هذه القدرات أيضاً أن تجعل من العاصمة والمدن والقرى فسحات للإبداع والإنتاج الثقافي والفني. هذه أمثولة أولى لا بدّ لوزارة الثقافة أن تتلقن منها وتأخذ بها. فالمجتمع المدني قادر فعلاً على ترسيخ الثقافة، فعلاً ونشاطاً وحركة. نجح رهان ليلى بركات إذاً، وتمكنت هذه الكاتبة التي تحمل شهادتي دكتوراه أن تساهم في انقاذ «العاصمة» مساهمة رئيسة، على رغم ضيق الوقت وغياب الخبرات و «الكادرات». عملت ليلى في الظل، لم تشأ أن تخرج الى العلانية، آثرت أن تظل في مكتبها، غارقة بين الأوراق وساهرة على تحقيق المشاريع. كان سواها يحصد اعلامياً و «وجاهياً» وكانت هي على قناعة بأنّ المهم هو أن تنجح التظاهرة. وكان حضورها والدور الذي أدته بمثابة «صمام» الأمان الذي احتاج اليه كثيراً سير العمل. فهي ليست محسوبة على حزب أو طائفة أو مذهب، وليست خبيرة في «اللعب» السياسي والمحاصصة والمراهنة والبيع والشراء وسائر «الأحابيل» التي يجيدها كثيراً الكثير من أهل السياسة في لبنان. وقد قطعت نزاهتها ونظافة كفها وبراءتها الحقيقية، الطريق أمام من كانوا يطمحون بالاستفادة من هذه الفرصة «الثمينة»، أياً كان شكلها. لا أحد يدري الآن إن كانت هذه «السنة» ستستمر خارج اطار المناسبة التي انتهت أمس، فتعتمد وزارة الثقافة سياسة الانفتاح على المبدعين والكتّاب والمثقفين وسياسة دعمهم من دون شرائهم - كما حصل في التظاهرة -، بل سياسة التحاور معهم فلا يظلّون بعيدين أو مبعدين عنها ولا تظل هي وزارة ثقافة بالاسم وليس بالفعل، كما اعتادت أن تكون في السابق. أما المال الذي تبقى من موازنة «العاصمة» ويقال انه ليس بالقليل، فيما سيكون مصيره؟ هل سيُدعم به أصحاب المشاريع الثقافية، الحقيقية والسليمة؟ وختاماً لا بد من رفع تحية الى ليلى بركات التي أثبتت أنها «الشخص» الذي كان مناسباً، ومناسباً جداً، في هذا الموقع «الرسمي» الذي ملأته وحرّرته من تبعات الأرث الرسمي التي كانت - وما زالت - عائقاً أمام الإصلاح في مفهومه الشامل.