عد منح هيئة كبار العلماء إشارتها «الذهبية» التي أذنت في «تدوين الأحكام» قبل أشهر، انطلقت وزارة العدل في اتجاه موازٍ، وبدأت في التحضير لمؤتمر يتولى بحث «العقوبات التعزيرية» والجدل المتردد بشأنها منذ حين. وبحسب المصادر الموثوقة التي تحدثت إلى «الحياة» فإن الوزارة بدأت في استكتاب علماء وفقهاء من المذاهب السنية كافة، لمناقشة وبحث كل ما يتصل بالعقوبات التعزيرية وآليات تقنينها وكذلك وسائل ضبطها، في وقت يتكرر انتقاد اختصاصيين وقانونيين للتفاوت الكبير بين العقوبات التي يحكم بها القضاة، في قضايا مشابهة أحياناً أو متقاربة. ويتوقع أن يدعم المؤتمر الذي لم يتحدد تاريخ بدء فعالياته حتى الآن، التوجه الذي ترفعه الأجهزة القضائية والعدلية في الآونة الأخيرة لسد الثغرات التي كانت مثار انتقاد محلي وربما عالمي في المنظومة القضائية والعدلية العريقة. وفي المؤتمر الذي سيشارك فيه خبراء من العالم العربي، يهدف إلى تقويم قواعد تقدير التعزيرات في المحاكم من خلال عناوين عدة، أبرزها تطبيقات العقوبات التعزيرية في المحاكم السعودية والأطر المقترحة لتطوير التطبيقات أحكام التعزير من خلال بلورة إطار مقترح لرفع كفاءة العقاب التطبيقي من خلال رسم السياسات العقابية وتطوير الموارد البشرية القاضية. وحول ضوابط فقه التعزيرات والتغلب على إشكال تفاوت الأحكام، يقول القاضي السابق ابراهيم بن يوسف الفقيه: «شريعتنا السمحة جاءت لاصلاح البشرية وتوجيههم، وجاءت بنظام يحفظ الضرورات ووضعت أحكاماً وتعزيرات لمن جانب الصواب، أما في جانب التعزير فرب عفو أوزع لكريم من تعزير، وهو توجيه حكيم لافت من المحكم في مسلك القضاء الشرعي يدل على وضع الشيء المناسب في المحل المناسب، وعلى مثل هذا، نص أهل العلم أن للسلطان سلوك السياسة الشرعية التي هي في اللغة «القيام على الشيء بما يصلحه»، ومن سياسة الحكم الشرعي إنزال كل انسان في منزلته وأن ينظر في الحكم للأمثل والأصلح في مشروعيته». وأضاف: «وهذا من حكمة الشريعة الاسلامية الصالحة لكل زمان ومكان، فلرب درء مفسدة خير من جلب مصلحة، بحيث ينظر في ما يحل به النفع ويزيل الضرر، ومما قد يلاحظ في بعض الحالات في هذا المجال اصدار تعزيرات في أمور سطحية يبالغ فيها بأكثر من حقها ومن الأولى معالجتها بأقرب الوسائل لانهائها بالعقل والفكر المحيط بجوانبها. ومن أهم الوسائل في معالجة مشكلات المجتمع أن ينظر القاضي بإعمال فكره في أقرب الوسائل لتحقيق المصلحة العامة لأن الجمع الذي قد يحصل في كثير من الأحكام بين السجن والجلد دون عمق في الجرم أو تكرار للجريمة يطيح بالمعنوية والكرامة الانسانية مما يوقع الضرر المنهي عنه اجتماعياً، لا سيما والمجال مفتوح للتوجيه والنصح والارشاد في مجلس الحكم ليدرك الحاكم مدى الاستجابة من عدمها». وأكد أن «عقوبة التعزير جاءت لحماية المجتمع وليس للإذلال وحط الكرامة، والمزايدة في الجلد من بعض القضاة أمر يحتاج إلى نظر، والواقع في هذا المضمار إذا ما أراد القضاة أن ينظروا لمثل هذه الأمور فلا بد من استقصاء في شرح الوقائع وأدلتها الظاهرة ليس الاندفاع والأخذ بالظاهر، فهناك ما يسمى بفقه المواجهة يستطيع القاضي أن يتوصل من خلاله إلى ايجابية الحكم على قدر ما يظهر من فقه القضية، إذ إن للشريعة الاسلامية مقاصد يجب الوقوف معها في الاصلاح والغايات والأهداف والنتائج التي تحقق مصالح الناس في الدنيا والآخرة وفي العاجل والآجل، هذا في ما يتعلق بحقوق الانسان في تنوع الأخطاء والمقادير المطلوبة في مقاصد الشريعة الاسلامية». أما التعزيرات التي تتعلق بالجناية على النفس أو الطعن في الدين أو الارتداد عنه وكذا العقوبة على الفروج المحرمة فهذه في ما نظر الفقيه «لها شأن آخر لما فيها من المفاسد العظيمة الموجبة للردع والزجر والدفع بالقوة إذ يعامل أصحابها بما هو منصوص عليه في كتب الفقه وما قرأ علماء الإسلام في مواضيع الاجتهاد. أما المعاصي التي لا حد فيها فالعقوبات عليها مختلف فيها، يقول الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله: «المعاصي التي لا حد فيها أسهل ولذا جعلت للأئمة وذلك أنه يحصل عوارض فتغير على حسب المصالح والمفاسد، وللإمام أن يعفو عما يراه في الحق العام» ومن المعلوم أن أئمة المذاهب قد اختلفوا في كثرة التعزير فذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يبلغ به أدنى حد مشروع وهو أربعون جلدة». وأكمل رأيه حول عموم هذه المسألة قائلاً: إذا ما نظرنا إلى وضع الناس في هذا العصر فإن هناك تغيرات واستمراءات لتكرار المعاصي مما يوجب المبالغة في التعزير بما يراه القضاء الشرعي نافعاً ومانعاً لتكرار المفاسد المخلة بالدين وبالكرامة الإنسانية كما أن للإمام ما يراه مناسباً في العفو أو استمرار العقوبة التعزيرية على مرتكب المعصية بقدر جرمه. والقضاة هم القدوة العملية والركيزة المثالية التي ينظر إليها المجتمع بالصدقية ويثق بها، ومن نماذجها الايجابية وضع الشيء في موضعه والنظر في أبعاده إذ إن القضاء في حد ذاته عمل رفيع يستلزم المثالية في كل شأن من شؤونه وليكون القاضي قوياً بلا عنف ليناً بلا ضعف حليماً لا يغضب فطناً لا يخدع ذات أناة وحلم وإدراك وفهم وأن يشاور أهل الفقه والعلم في ما أشكل عليه وهذه الصفات والآداب المنصوص عليها يجب ملازمتها لتظهر للسامع الموهبة العلمية والفطرة العقلية الناضجة المرضية، ولما للقضاء من مكانة سامية تقوم عليها مصالح الأمة في كل زمان ومكان لأن دين الإسلام المهيمن على جميع الأديان لا يقبل عملاً بغير ما شرعه الله لعباده وأمر به رسوله باتباعه. وإن مما يشترط أن يكون المبلغون لهذه الرسالة على مثالية سامية من العلم والأدب وحسن الخلق ليحوزوا بذلك كامل الثقة لا سيما ونحن اليوم في عصر مخيف درج فيه كثير من العالم إلى طرق ومناهج وضعية تخالف الأصول الشرعية وجعلوها منهجاً ودستوراً في حياتهم البشرية، (وستكتب شهادتهم ويسألون)، فالجرائم تعددت وتنوعت مما زاد معه مضاعفة الاجتهاد وانتقاء الأحكام التعزيرية المواكبة لتلك الجرائم بأنواعها. ففي فقه النص وفقه الواقع وبخاصة للقضايا المنصوص عليها في القرآن الكريم وكذا في السنة المطهرة والموضحة في الأنظمة والتعليمات والحرص على الإصلاح والنصح للناس في أمور دينهم ودنياهم، وكل هذه الأمور من العوامل الجديرة بالتحريات والتطلعات لعمل القاضي فيها على ما ينفع عامة الناس في دنيا الناس علماً وأدباً وفقهاً لإنهاء النزاعات بين الناس بما يحفظ حقوقهم ويقطع خصوماتهم لأن مسؤولية القضاء الذي رسمه دين الإسلام في قالب مميز بالشفافية والعدالة السماوية، يجب أن يكون في منتهى الدقة وأن يتصور الدقة وأن يتصور حامله كل معانيه وأحكامه ليخاطب الناس بعلم وعقل وأدب وبما يكون متفقاً مع مسؤولية العمل لا وكس ولا شطط. ولا يعاب على مجتهد أن يأخذ ويكتسب الحلم والفقه ممن سبقه، فقد ورد في الأثر أن عدي بن أرطاه دخل على شريح القاضي وهو في مجلس حكمه فقال له: أين أنت أصلحك الله. فقال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني، قال: قل اسمع، قال: لأني رجل من أهل الشام، قال مكان سحيق، قال: تزوجت عندكم، قال: بالرفاه والبنين، قال: وأردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال فعلى من حكمت، قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من، قال: بشهادة ابن اخت خالك، ألا يلاحظ أن القاضي شريح لم يعنف الخصم أو يرده أو يقول له أو يعطيه موعداً لفترة طويلة يراجع فيه أو يؤدبه تعزيراً على تطاوله، ألا يكون شريح قدوة في القضاء والآداب والحكمة والفطنة وهو ما أردناه صورة مثالثة تحتذى بها يقتدى، فتجارب القضاة السابقين درس للقضاة اللاحقين بل للقاضي أن يواكب العصر ويراعي الأحداث في التعزيرات بالبدائل الاجتماعية والأخلاقية وغرس الدين في الناشئة بدلاً من يعاقب بسجن وتتأصل في نفسه الجريمة بسبب اختلاطه مع أصحاب القضايا الحدودية، وبالله التوفيق.