السجالات والبيانات المتضاربة بين جناحي مؤسسة العسكريين المتقاعدين في الاردن ثم مبادرة أحمد عبيدات، مدير المخابرات رئيس الوزراء السابق الذي انتقل إلى المعارضة، عرّت «إشكالية» العلاقة الأردنية - الفلسطينية في بعدها الداخلي كما كشفت هشاشة نسيج المجتمع، منذرة بتخلخل استقرار الأردن في حال تناسلت حالة التجاذب من دون إصلاحات سياسية حقيقية تساهم في بلورة هوية توافقية. وبدلاً من التركيز على الأزمة الأكبر، وعنوانها غياب إصلاحات توسع قاعدة التمثيل السياسي وتعزّز الوحدة الوطنية، انزلقت الغالبية باتجاه اصطفاف إقليمي ضيق، بينما تبتلع إسرائيل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية. انقسامات تفرز المواطنين عرقياً على نحو يضعف خاصرة الأردن أمام مخططات التوسع الإسرائيلي بعد انسداد أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة غربي النهر وتنامي الأزمة الاقتصادية، على وقع الخلط بين التجارة والإدارة. لم تهدأ عاصفة الجدل الممزوج بالهواجس والانفعالات المحمومة منذ صدور نداء اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين مطلع الشهر الحالي وسط اتساع دائرة التململ الشعبي وضبابية الموقف الرسمي. هذه الأزمة كشفت كذلك عجز الأحزاب السياسية بقيادة الإسلاميين المنقسمين أيضاً، إذ فضلوا موقف المتفرج تاركين الباب مفتوحاً أمام حراك المجتمع ونخبه السياسية والاقتصادية. سياسي أردني مخضرم أعرب في حديث الى «الحياة» عن الامل في «أن يفضي الحراك إلى تحول فاعل صوب انهاء حال الاستقطاب والعصبيات المتنامية وبدء العمل الجاد على ردم الهوة تدريجاً من خلال التوافق على عنوان مرحلة جديدة عماده تحقيق المصالحة الداخلية والإصلاح السياسي لدعم الاستقرار». على أن المسؤول حذّر من أن «تربة الأردن ستغدو خصبة للمتربصين إذا لم يستكمل ذلك الهدف سريعاً، وبقيادة المرجعيات العليا، أي الأجهزة الأمنية، والحكومة، والسلطة التشريعية والإعلام بشقيه العام والخاص» في وقت تجهد حكومة اليمين الاسرائيلية في تصدير أزمتها مع الديموغرافية إلى الأردن». في خلفية المأزق المستجد في عمان مخاوف متنامية حيال ما يسميه الإعلام «أوامر الترانسفير» الصادرة عن الحاكم العسكري الإسرائيلي بطرد كل فلسطيني لا يحمل إذن إقامة رسمياً في الضفة الغربية، ومشروع قانون للنائب المتطرف أرييه الداد يقضي بترحيل دولة فلسطين إلى الأردن. تتوازى مع ذلك حملة تهويد القدس وتكثيف الاستيطان في تحد واضح لنص وروح معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية 1994. مأزق صانع القرار هنا كبير لكنه غير معلن. هذا يفسر في بعض جوانبه ضبابية الموقف الرسمي بين حسابات الداخل ومحدّدات خطوط الدولة الحمراء؛ وعلاقات إستراتيجية مع أميركا ومعاهدة السلام. فالأردن راهن على خيار حل الدولتين لفتح الأرضية نحو حوار شفاف لمناقشة العلاقات المستقبلية بين الدولتين الأردنية والفلسطينية وبين الشعبين: تلك العلاقة المتداخلة بحكم الجغرافيا، الديموغرافيا والتاريخ، والمصاهرة والدم، بحسب مسؤولين حاليين وسابقين. ذلك الهدف يبدو اليوم بعيد المنال في ظل التفكك العربي، والانقسام الفلسطيني مع تغييب السلطة الوطنية، وانحياز أميركا الى مصالح إسرائيل العليا. تلك المعادلة تؤجج مخاوف شعبية من إمكانية تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، مع أن الخطاب الرسمي يرفض ذلك الخيار ويهدّد بمقاومته بكل الطرق: سياسياً وديبلوماسياً وقانونياً وحتى عسكرياً. في ظل هذه الأجواء يتوقع ساسة وحزبيون تعمق التجاذبات بين حركة وطنية شرق أردنية نواتها ضباط ينتمون إلى هيئة مؤثرة تضم 140000 متقاعد خدموا في القوات المسلحة بعد نداء وجّهته لجنة منبثقة عن هذه المؤسسة طالبت فيه بإعادة تعريف إسرائيل كعدو رقم واحد ومأسسة قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية (1988)، ولاقى تأييداً واسعاً بين صفوف مواطنين يشعرون بالتهميش والغربة لأسباب متداخلة، وتعيش غالبيتهم في بوادٍ وقرى خارج مدن الثقل الفلسطيني: أي عمان والزرقاء وإربد. هذه الجبهة تطالب بوقف تجنيس الفلسطينيين وإحداث إصلاحات سياسية في العمق. في المقابل يقف تيار عريض صامت وغير منظم يريد للأردن أن يكون وعاء احتواء لكل من يحمل الجنسية الأردنية (الرقم الوطني) بغض النظر عن الأصول والمنابت: لا تناقض بين الهويتين الأردنية والفلسطينية (النضالية)، المواجهة مع إسرائيل ورفض خيار الوطن البديل، بحسب مبادرة أطلقها رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات قبل أسبوع. قد تفتح هذه المبادرة الطريق أمام بلورة برنامج عمل وطني توافقي يعالج تفاصيل العلاقة الأردنية - الفلسطينية وإشكالياتها، ويعزّز العودة إلى خيار الديموقراطية الذي تجمد عقب معاهدة السلام. مسؤولون في الحكم وأقلية مقربة من النظام، يؤازرون تيار عبيدات، لكن من وراء الستار، لا سيما في المناداة بهوية أردنية جامعة، تكون وعاء من إثنيات، وطوائف وأعراق تعايشت منذ ميلاد الدولة الوطنية الأكثر استقراراً في المنطقة، قبل 90 عاماً. فضلاً عن مناصبه العليا في الحكومة والاستخبارات، ترأس عبيدات لجنة الميثاق الوطني التي صاغت عام 1990 وثيقة تصالح بين الحكم والقوى السياسية بعد اضطرابات العام 1989 التي أنهت عقوداً من سياسة القبضة الحديدية وفجوة ثقة بين الطرفين. وبعد صوغ الميثاق الوطني سارت الأمور بسلاسة وعبر الجميع عنق الزجاجة حتى ميلاد معاهدة السلام التي شكلت نقطة انعطاف صوب تراجع تدريجي في برنامج الإصلاح والحريات العامة بهدف إسكات معارضي السلام. إذاً، يعتمد عبيدات على إرث رئاسته للجنة صوغ الميثاق، مع انه ظل حبراً على ورق. شخصيته مقبولة لدى شريحة واسعة من الأردنيين من أصول شرق أردنية، وفلسطينية. لكن يظل السؤال الأهم: هل تنجح مبادرته في إدامة الحراك المجتمعي في ظل غياب موقف رسمي حاضن وداعم؟ الأمل كبير في الاستدامة، بحسب نشطاء وحزبيين، لعوامل عدة: مناقبية صاحب المبادرة، واتساع قاعدة مؤيديه وتنوعهم، وتوقيت الحراك المتدحرج ككرة ثلج. ومن بين المؤيدين ساسة يقفون على طرفي نقيض مثل عبدالكريم الكباريتي، رئيس وزراء أسبق (1996-1997)، ونائب رئيس الوزراء الأسبق مروان المعشر. عبيدات، الذي ينحدر من أصول عشائرية من شمال الأردن، ترأس مجلس إدارة المركز الوطني لحقوق الإنسان منذ تأسيسه منتصف العقد الحالي حتى إقالته أواخر 2008 بعد توقيعه على بيان وصفته السلطات ب «السياسي» ضمن 150 شخصية طالبت بتسريع الإصلاحات واحترام حقوق الإنسان. بيان عبيدات الأخير نشر هذا الأسبوع على موقع الكتروني أسسه متطوعون. وقد يتحول خلال أسابيع إلى منبر «سياسي ثقافي» لتبادل الآراء المتصلة بالإصلاح ببنوده التفصيلية وصولاً، ربما، إلى مشروع وطني يعتمد أفكاراً قابلة للتطبيق قد يلتقطها أصحاب القرار. وقد يعتمد المشروع مرشحون الى الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها أواخر العام. وبالتزامن، يخطط عبيدات لترويج مبادرته عبر سلسلة لقاءات حوارية داخل العاصمة وخارجها ومع الجسم النقابي المؤثر. لكن فكرة تأسيس حزب غير مطروحة حتى الآن، بحسب ما شرح عبيدات ل «الحياة» في مكتبه، حيث يشرف على شركة محاماة مع أبنائه. الهدف الأساس، يقول عبيدات، يبقى توجيه رسالة عاجلة الى مركز صنع القرار، والى المسؤولين ولفت النظر الى ما يعتقد انه شعور وطني شامل بالقلق. ولا تزال آلاف التواقيع تنهال على الموقع من كل حدب وصوب تمثل شتى التيارات، والآراء والمواقع. عبيدات يتحدث في مبادرته عن أهمية تنظيم العلاقة الأردنية – الفلسطينية من وحي «الفصل السابع» للميثاق الوطني. وكذلك يدعو إلى مأسسة إصلاح سياسي، بدءاً بقانون انتخاب «رشيد» يصفه بأنه قاطرة الإصلاحات اللازمة لتحقيق توازن بين السلطات ووضع حد للمزاجية، والتردد والتفرد في آلية اتخاذ القرار. وهو يؤكد أن البيان الذي أصدره العسكريون المتقاعدون بداية الشهر حفّزه على التقدم بمبادرته، إلا أنها ليست رداً مباشراً عليه. وقال: «نحن نتفق مع معظم ما جاء في البيان من دعوات للإصلاح والتصدي للمشروع الصهيوني»، ويرى أن «البيان استغل لشق الوحدة الوطنية»، ليؤكد انه «مع كل مطلب صادر للإصلاح... لكن لا نقبل بخلط الاوراق في هذه الصورة وأن تكون المحصلة خلق فتنة في البلاد». فمن وجهة نظره، مشكلة الأردن هي «إسرائيل والمخطط الصهيوني الذي لن يقف عند حد ويسعى لنقل المعركة الى خارج الحدود الفلسطينية ووجد أرضاً رخوة في بلد ملاصق فيه أكبر كتلة بشرية من الفلسطينيين خارج حدود فلسطين». ويشكل الأردنيون من أصول فلسطينية زهاء نصف عدد السكان المقدر بستة ملايين نسمة. تحتضن المملكة مليوناً و800 ألف لاجئ مسجل ضمن قوائم الأونروا، أي ثلث عدد اللاجئين الفلسطينيين في الخارج. بيان العسكريين المتقاعدين استخدم نبرة جريئة غير مسبوقة كتأكيدهم أن «الدستور لا يمنح أياً كان، وكائناً من كان، أي سلطات إلا لجلالة الملك من دون شراكة أحد بغض النظر عن صلة القرابة أو اللقب». وطالب البيان بوقف تجنيس المزيد من «المهجّرين» الفلسطينيين في مملكة تشابك قدرها السياسي مع الضفة الغربية منذ نشوء دولة إسرائيل في مثل هذا اليوم قبل 62 عاماً. إذ لجأت موجات من أهل الساحل الفلسطيني إلى الأردن الذي أعلن وحدة مع الضفة الغربية عام 1950. ثم نزح زهاء ربع مليون من الضفة الغربية وأيضاً من غزة بعد حرب 1967. وفي غمرة حرب الخليج الثانية عام 1990، استقر زهاء 400 ألف فلسطيني في المملكة غالبيتهم يحملون الجنسية الأردنية. وأكثرية الأردنيين من أصول فلسطينية لم يحسموا بعد أمر ولائهم السياسي والهوية الوطنية بانتظار قيام دولتهم المستقلة. هذا وسط تسريبات من داخل أجهزة الدولة تفيد بأن الأردن منح جنسيات لقرابة 80 ألف فلسطيني خلال السنوات الخمس الماضية، 25 ألفاً منهم بطلب مباشر من الديوان الملكي. بموجب بيان العسكريين، فإن عدد الفلسطينيين في الأردن تجاوز 2.5 مليون نسمة: منهم مليونان من اللاجئين والنازحين والمجنسّين نهائياً، وحوالى 850 ألف نازح مجنس يحمل «البطاقة الصفراء» ويملك تصريحاً من الاحتلال الإسرائيلي بالإقامة في الضفة الغربية، وحوالى 1.5 مليون من غير المجنسين ممن يحملون البطاقة الخضراء التي تصرف للنازحين من (الضفة الغربية) والزرقاء من (قطاع غزة). ويرى العسكريون أن المملكة تتعرض لضغوط صريحة لتجنيس الجميع ومنحهم كوتا في النظام السياسي تساوي نسبتهم. ويقول احد معدّي البيان: «السياسات الحكومية تظهر الضعف الشديد نحو الضغوط الأميركية والتحدي الصهيوني وأعوانه المحليين، وقد شرعت بالفعل في اعتماد نظام المحاصصة المتجهة نحو الوطن البديل في المستويات السياسية والإدارية والسيادية. ويظهر ذلك من خلال تولية السلطات الرئيسة والقيادات والمواقع الحساسة في الدولة لغير مستحقيها حتى من دون أن يحصل بعضهم على حقوق الجنسية». وهم يرجعون «هذا الضعف إلى تنفيذ سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام، وسيطرة قوى (البزنس) والفساد والاستثمارات المشبوهة، ما أدّى إلى تضخم المديونية العامة وعجز الدولة والإفلاس السياسي وشيوع الفقر والجوع والبطالة خصوصا في صفوف الشرق أردنيين». كما يعود الوهن في مجابهة الوطن البديل إلى «ظهور أو ترسخ مراكز القوى والعائلات الحاكمة التي تتخذ القرار وتشكل الحكومات وتمنع الشعب الأردني من تقرير مصيره ومستقبله والدفاع عن وطنه ومصالحه». البيان لم ينشر في الصحف اليومية واطلع عليه الأردنيون من خلال بعض المواقع الالكترونية التي عادت وسحبته بناء على تدخل مباشر. كما طلب من السلطات الأمنية، بحسب مسؤولين، لقاء ممثلين عن المتقاعدين لمعرفة كيفية صدور البيان: عفوياً أم ان هناك ثمة جهات تقف خلفه عمادها متقاعدون عسكريون خرجوا من مواقع رفيعة أخيراً. تبع بيان المتقاعدين رد من المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية للمتقاعدين والمحاربين القدامى نشر في وسائل الإعلام الرسمية، وشبه الرسمية والخاصة. وبعد أيام صدرت مبادرة عبيدات، الذي يتوجس من استمرار الصمت الرسمي حيال الاستقطاب الدائر. الجدل سيتواصل ويتعمق. ويبقى الأردن اصغر من أن يعاد تقسيمه «إذ يعد كل انصياع الى هذه المخططات بوعي أو من دون وعي، ضد مصلحة الوطن والنظام»، بحسب ساسة ومراقبين. وفي الأثناء يبقى نصف المجتمع مرعوباً ومتوجساً من نصفه الآخر، وثمة ضرورة لتشكيل هوية وطنية جامعة بدلاً من الخوف وردود الفعل التي لا تنتج سياسات قابلة للتنفيذ. يرى مسؤول أردني أن «التوتر الداخلي وصل حدوداً خطرة، والمطلوب حل وسط. وهناك شعور عند الشرق أردنيين بأن الوضع الفلسطيني بات يهدد مختلف جوانب الحياة السياسية الأردنية. ويخشون من انه في حال حدث توطين سياسي أو تقدم «الخيار الأردني»، فإن ذلك سيزيد الكثافة السكانية الفلسطينية فيتراجع نفوذهم».