على رغم تدارك السلطات العسكرية الإسرائيلية ما أثارت وتثير تصريحات عدد من الجنود الذين شاركوا في الهجوم الأخير على قطاع غزة، والفظائع والفضائح التي ارتكبوها خلال أسابيع ثلاثة من حربهم البشعة هناك، ومحاولة القيادة العسكرية التغطية عليها، عبر مزاعم عن إجراء تحقيقات، وذلك للتمويه على حقيقة ما باح به الجنود وما ذكروه عن أفعالهم المخزية، والتي لا تتوافق مطلقاً مع الأكاذيب المروجة حول ما يتعلق بما يسمى «طهارة السلاح الإسرائيلي» وأن الجيش الإسرائيلي هو «من أكثر الجيوش في العالم مراعاة لأخلاق الحرب وممارساتها»! خرج المحققون بنتائج متسرعة، كما نشر من أقوال الجنود عن أفعالهم، ما هي إلا إشاعات، وأنه لم يتم التثبت «حقيقة» من أنهم شاهدوا بأم أعينهم، أو مارسوا هم أنفسهم الممارسات التي ذكرتها الصحف الإسرائيلة (هاآرتس ومعاريف وغيرهما)، أو كما أوردتها وكالات الأنباء العربية والأجنبية، أو ما كتبت الصحافة الأجنبية، «الغارديان» البريطانية (على سبيل المثال بتاريخ 26/3/2009). مع ذلك فإن نتيجة التحقيق العسكري سجلت إنكاراً لكل الممارسات، وأن الجنود نقل إليهم أو قيل لهم ما قالوه! وقد احتجّت منظمات إنسانية إسرائيلية وعالمية على نتائج التحقيق الرسمي الإسرائيلي، وطالبت بتحقيقات من جهات حيادية مستقلة. فماذا جاء في تصريحات الجنود عن أفعالهم، وماذا جاء في تعليقات وأقوال زملاء لهم بعد مجزرة قانا في لبنان عام 1996، وهل يتوافق ذلك مع أساطير وأكاذيب «طهارة السلاح الإسرائيلي» أو «ممارسات الجيش الأكثر أخلاقية في العالم»؟ ذكرت «هاآرتس» (22/3) أن قمصان بعض الجنود الإسرائيليين كان مكتوباً عليها «أطلق النار لأقتل»، وأن بعضهم اعترف في شهادات مسجلة بأن قيادتهم أمرتهم بأن يقتلوا من دون خوف من العقاب، وذكروا عن عمليات محددة ضد مدنيين في بناية، وعجوز قتلوها وهي تسير، واستخدام ولد فلسطيني كدرع، وعن منشورات دينية تلقوها تحرض على القتل، كما أن الأوامر من خلال وثيقة مكتوبة كانت تنص على إطلاق النار على طواقم الإسعاف في حال اقتربت من بيوت فلسطينية احتلتها القوات الإسرائيلية. هذا ملخص لما جاء في صحيفة «هاآرتس»، أما تفاصيل تلك الوقائع، كما سجلتها صحيفة «معاريف» (20/3)، فننقل منها الوقائع التالية، كما ذكرها جنود من إعدادية رابين العسكرية الملحقة بكلية أورانيم العسكرية، وقد كان مع الجنود الذين أدلوا بتصريحاتهم جنود آخرون من دورات عسكرية سابقة، وممثلون من ألوية المشاة، وطيار واحد، وأحد رجال مكتب الناطق بلسان الجيش، ورئيس الإعدادية داني زامير - أي بحضور رسمي من ممثلي وحدات ومراكز عدة في الجيش - مع ذلك فإن الجنود المعنيين ذكروا بحسب ما جاء في نشرة الكلية ما يأتي مختصراً: - في الكثير من الحالات الموصوفة، أطلقت النار على نساء وأطفال، كان بالوسع تشخيصهم بوضوح، وأنهم لا يشكلون خطراً على القوات، والأدهى - بحسب النشرة والصحيفة - أن مطلقي النار وقادتهم لم يفكروا أن في هذا خروجاً على القواعد، أو أنه يجب التفكير فيه أو يتطلب الإبلاغ. - ترافق الحضور داخل البيوت الفلسطينية بأفعال تخريب متعمدة، من كتابة الشعارات على الجدران، وصولاً الى تخريب الأثاث من دون مبرر، وفي أماكن كثيرة طبقت نظرية تقول بوجوب طرد العائلة الى الشارع، على رغم أنه كان من الواضح أن مجرد وجودها في مكان مكشوف يعرّضها لخطر الموت. - تم استخدام الكثير جداً من النيران، وقتل الكثير جداً من الناس - الفلسطينيين - في الطريق، من أجل أن لا نتضرر، ومن أجل أن لا تطلق علينا النار، وأن نشرع بإطلاق النار داخل البيت، وبعدها ببساطة أن نصعد طابقاً وراء طابق، وأن نطلق النار على كل شخص نلحظه. - قالت لنا جهات عليا، أن هذا مسموح - إطلاق النار والقتل - لأن كل من بقي في القطاع وفي داخل مدينة غزة هو تحديداً مخرب، علماً أنه لم يكن لديهم أي مكان يهربون إليه! لذا كان علينا أن نفهم، بأنه مسموح لنا أن نفعل ما نشاء في غزة. - رأى أحد الضباط وهو قائد سرية، امرأة تمر في الطريق، كانت عجوزاً كبيرة في السن، وأنا لا أعلم إذا كانت مشبوهة أم لا - أحد الجنود يروي - ولا أعرف قصتها، لكنه طلب من رجاله الصعود الى السطح، وبالرصاص اسقطوها! - خسائر الجيش الإسرائيلي كانت طفيفة، ولكن الثمن كان أرواح الكثر من المدنيين الفلسطينيين، لأنه في البيوت التي دخلنا إليها - بحسب ما وصلنا من قرارات - ممنوع إبقاء أحد من السكان في البيوت التي نصل إليها. - رأى جندي الذي كان ممترساً على سطح البيت امرأة وولديها يتجهون يميناً، بعد أن لم يفهموا التعليمات بالاتجاه شمالاً، إلا أن الجندي أطلق النار عليهم مباشرة. أنا لا أعرف - كما ذكر الجندي الراوي - ما إذا كان أطلق النار على الساقين أو شيء من هذا القبيل، ولكن في كل الأحوال، ما جرى هو أنه في نهاية المطاف أرادهم قتلى، لأن أرواح الفلسطينيين أقل أهمية بكثير من أرواح جنودنا! - أما الحاخامية العسكرية فأدخلت الكثير جداً من الكتيبات والمقالات، مع رسالة واضحة: نحن شعب إسرائيل، وصلنا بمعجزة للبلاد، فقد أعادنا الله إليها، واليوم علينا أن نصارع من أجل طرد الغرباء الذين يعرقلون مهمتنا في احتلال الأرض المقدسة، وكان شعور الغالبية من الجنود، بأن هذه حرب دينية. وكقائد، حاولت أن أوضح لهم أن هذه ليست حرباً من أجل الله، وإنما من أجل وقف إطلاق صواريخ القسّام. هذا ملخص لأهم ما جاء في صحيفة «معاريف»، مع ذلك فإن نتيجة التحقيق العسكري، سجلت إنكاراً لكل ما ذكر الجنود ومارسوه، والخلاصة أن الجنود نقل إليهم وقيل لهم ما قالوه! أما تعليقات جنود من الجيش الإسرائيلي على مجزرة قانا في لبنان عام 1996، (ما يزيد على مئة من الأطفال والنساء والرجال)، فقد كانت أصرح وأوقح من التصريحات السابقة، حيث ورد في مجلة «كول هعيل» (10/5/1996) بحسب ما نقل عنها في كتاب «سياسة الأرض المحروقة والحل المفروض» وأشير الى الحروف الأولى من اسماء الجنود: «الرقيب ط: في ما يتعلق بقرية قانا، تقصير أو لا تقصير؟ سقط لديهم قتلى، فما أهمية ذلك؟ وإذا سألوك عن رأيك؟ لأطلقنا مزيداً من القذائف ولقتلنا مزيداً من العرب، لا يمكن أن يكون في ذلك ضرر. ألا توجد مشكلة ضميرية؟ أجاب الرقيب نفسه: هذا جيش وهؤلاء عرب، يوجد عرب أكثر، لا توجد لدي مشكلة ضميرية تجاه هذه المسألة، ولا لدى أي شخص من الزملاء هنا، إننا كجنود ننفذ أوامر تردنا من فوق. الرقيب أ: هناك أوامر ونحن ننفذها في هذه الحالة المحددة، حدث انحراف (في اتجاه التصويب) وسقطت القذيفة في مكان لم يكن من المفترض أن تسقط فيه، لكن لحسن الحظ حدث ذلك! أعلن محققو الأممالمتحدة أن 13 قذيفة إسرائيلية أصابت مجمع قانا، وأن ثماني قذائف منها كانت مجهزة بصاعق التفجير الذي يحولها الى سلاح فتاك جداً، وخلص تقرير المحققين الى أنه من المستبعد أن تكون مجزرة قانا مجرد خطأ. الجندي أ: جمعنا قائد وحدة البطارية، وقال لنا إن هذه حرب، وإننا يجب أن نواصل القتال كمقاتلين أبطال، دخل أتباع «حزب الله» قرية فيها عرب، وهذه مشكلتهم، زائد عربي ناقص عربي، أنت تعلم ما المقصود. هذا ما قاله لنا أيضاً قائد وحدة البطارية - المدفعية. تقصد النقيب س... ما الذي قال بالضبط؟ قال لنا إن هذه حرب، قل لي بربك إذا أطلق «البغايا» - هكذا بالنص - عليك النار، فماذا تفعل؟ قال: إننا نطلق النار جيداً لنستمر في ذلك، وأن هناك كما تعلم الملايين من العرب. الجندي ط وهو جندي آخر كان موجوداً في أثناء الحديث الذي دار بين جنود وحدة البطارية: لم يتحدث أي شخص عن هذا الأمر باعتباره تقصيراً، لقد قمنا بما نحن مكلفون به، ونحن راضون عن أنفسنا، النقيب س قال لنا إننا أكفاء وأن هؤلاء مجرد «عرابوشيم» - كلمة تحقيرية للعرب - عربان؟ ألم يحتج أحد على هذا الوصف: عرابوشيم؟ ط: كم عدد العرب، وكم عدد اليهود؟ ليمت عدد من العرب. ليس في ذلك ضرر. هذا ما تم تسجيله في مصادر إعلامية إسرائيلية عن هجومي غزة وقانا، وما ارتكبته القوات الإسرائيلية من مجازر فيهما، وعلى لسان جنود إسرائيليين شاركوا في تنفيذ المهمات والأوامر التي تلقوها من قياداتهم. ويمكن تسجيل التالي على ما باح به الجنود من أقوال وأفعال مملوءة بالحقد والعنصرية والاحتقار والاستهتار بأرواح المدنيين من العرب. لو قارنّا أقوال الجنود الإسرائيليين في حالتي حرب قانا وغزة، نجد فارقاً في الحرب الأخيرة، يشير الى لغة فيها جوانب من العرض الموضوعي، والفهم لحال المدنيين العزّل والمآسي التي يتعرضون لها والناتجة من أفعال الجنود الذين يعترفون، ونجد أن الجندي الإسرائيلي يبوح فيها بنفحات إنسانوية، قد تسجل في خانة التعاطي مع ضحاياه، لكنه يحيل ذلك وبنقد واضح لأوامر القيادة وللمراتب العليا التي لا تفرق بين المدني والمسلح، وبين المقاتل وغير المقاتل. في حين أن الجنود في الميدان العملي يواجهون حالات تضع «ضمائرهم» في مواجهة حالات إنسانية شائكة - على رغم الأوامر الصريحة بالقتل - وتحتاج الى حلول تظهر فيها مرجعيات الجنود القيمية الأخلاقية. وهذا ما يشير الى فارق نوعي في بعض الحالات الواردة في الأقوال والأفعال، كما يمكن وضعه في خانة الجندي الإنسان، وليس الجندي الآلة الحديد، الطيع والمنفذ للأوامر كيفما كانت. مع ذلك علينا الإشارة الى توضيحات وتحفظات في هذا المجال: 1 - علينا الانتباه الى الفارق الزمني بين حربي قانا وغزة، وأنه مضى نحو 13 عاماً بين الحربين، فهل حدثت تطورات وتغيرات قيمية إيجابية وإنسانوية في صفوف الجيش الإسرائيلي خلال هذه الفترة؟ 2 - الفارق الزمني صحيح ومؤكد، لكن علينا التوكيد في نفي الفارق من منظومة القيم، أو التحفظ في التسليم بوجدها - على رغم وجود مظاهر وتعبيرات تشير الى ذلك - نظراً الى أن الجنود في حالة قانا كانوا يتكلمون من دون تحفظ ومن دون رقابة من قيادتهم. كانوا يتكلمون بحرية وبعفوية اعترافية مفتوحة ومكشوفة ليعبروا عن مكنون القيم المزروعة في دواخلهم، في حين أن اعترافات الجنود الذين اشتركوا في حرب غزة تمت تحت رقابة مشتركة من قبل قيادات متعددة في الجيش. من هنا برز الفارق النوعي في إطلاق أحكام الجنود وتكييفاتهم لمجريات الحربين، وما يؤكد ما نذهب إليه في عدم وجود فارق يتمثل في عدد الضحايا من المدنيين في حرب غزة الأخيرة، خصوصاً بين الأطفال والنساء والمسنين. كما أن القيادة الدينية للقوات كانت مدججة بمقولات توراتية عن النوع والاصطفاء والعطاء الإلهي للأرض المقدسة لليهود وحدهم من دون البشر جميعاً! أما أن تنفي لجنة التحقيق العسكرية كل ما تم تسجيله على أرض الواقع، ومن خلال اعترافات الجنود أنفسهم، ومن خلال عدد الضحايا الذين سقطوا في صفوف المدنيين العزّل، وأن تصف ذلك بأنه نوع من الإشاعات والأقاويل غير المؤكدة، فإن ذلك يشخص البارانويا المتعالية في احتقار الحقائق، والإنكار الاستعلائي (تشوزباه) القائم على ترهات وأكاذيب مفبركة لا تصمد أمام صلابة الحقائق التي تم تسجيلها على أرض الواقع. وحسناً فعلت وتفعل إحدى منظمات حقوق الإنسان العالمية، حين قامت وتقوم بإجراء تحقيق مستقل في مجريات حرب غزة الأخيرة، هذا إذا ما مضت جدياً في مهمتها الشائكة، وإذا ما سمحت لها السلطات الإسرائيلية باستكمال ما تقوم به حتى النهاية. * كاتب فلسطيني.