أكثر زوار النيبال ينتقلون من العاصمة إلى مدينة بخارى بهدف تسلق جبال أنابورنا الواقعة على منحدرات الهملايا، والتي تضم بين جنباتها محمية أنابورنا. كل مدينة بخارى تقع على حافة بحيرة «فيوا» وهي ثاني أكبر بحيرة في البلاد، الا أن الشارع الواقع على الشاطئ هو شارع السياح بالتحديد. ففيه تنتشر الموتيلات (فنادق صغيرة متواضعة) والبيوت التي تؤجر غرفها، والمطاعم التي تقدم وجبات مطابخ العالم بلا استثناء، والمقاهي التي تناسب ذوق كل سائح، الهادئ والصاخب، الشاب والكهل، القادم بهدف السهر أو المار مروراً سريعاً بهدف الانطلاق في رحلة المشي. هذه كلها يملكها أجانب يستثمرون في نيبال، على رغم أن ملكيتها إسمياً لنيباليين، إذ لا يمكن لأجنبي التملّك هناك. ومن بين هؤلاء لبنانيون وسوريون وخليجيون كثر، فتنتهم نيبال وبخارى تحديداً فقرروا الإقامة فيها. وفي الشارع أيضاً محال بيع كل ما يخطر على بال السائح والمتسلّق والمشائين. كل شيء بلا تحديد. وفيه أيضاً مكاتب وكالات السفر والسياحة التي تنظّم الرحلات للسياح داخل نيبال، وتؤمن الحمالين والأدلاء، وهؤلاء سيحتاجهم كبار السن أو القادمون للمرة الأولى ليحملوا أغراضهم خلال الرحلة وليدلوهم على الطريق في رحلة تمتد 12 يوماً للوصول من بخارى إلى «مخيم القاعدة»، الواقع على ارتفاع 4500 متر. وفي الشارع صيدليات كثيرة لبيع ما يحتاج إليه المنطلقون نحو الجبال خصوصاً الحبوب التي تعقّم المياه لتصبح صالحة للشرب، وحبوب الدوار الذي سيصيب كثيرين كلما ارتفعوا في الجبال بسبب نقص الأوكسجين، عدا عن المراهم وحبوب تسكين الآلام التي سيحتاجها العائدون المصابون برضوض في عضلاتهم، وهؤلاء كثر أيضاً. وفي الشارع الكثير من صالونات التدليك، وهذه لا بد سيدخلها المشّاء المبتدئ بعد عودته من الرحلة. والأهم من ذلك كله، آلات الصرافة الموزعة في كل مكان في الشارع، فالسائح غير المعتاد على نمط حياة «لايك سايد» وهو اسم الشارع السياحي، أي «جانب البحيرة»، سيضطر لسحب المال مراراً وتكراراً خلال فترة إقامته. «جانب البحيرة» في شارع «لايك سايد» سترى السياح الأجانب وهم الأكثرية، ثم الباعة النيباليين، ثم الأبقار وبعدها الكلاب. فالأبقار تسرح في الشارع بلا حسيب أو رقيب. ولو قررت إحداها أن تنام في منتصف الطريق فلن يقترب منها أحد لإزاحتها، بل ستلتف السيارات حولها. الأبقار تحيا بهدوء بين السياح، وهي لا تخاف الذبح، فالنيباليون لا يأكلون لحمها. والأمر نفسه بالنسبة إلى الكلاب، التي تعيش حرة في الشارع، وهي ليست ملك أحد ولو أنها تلقى الرعاية من الجميع بل ويحتفى بعيد خاص بها سنوياً، فتزيَّن بالورود وتُرش بالألوان. بعد التمركز في الشارع، في غرفة مؤجرة بخمسة دولارات يومياً على الأكثر، تبدأ رحلة التعارف مع سكان الشارع الممتد 10 كيلومترات تقريباً، فبعد 3 أيام من الإقامة، ستصبح جزءاً من الشارع، وسيكون السؤال الدائم الذي يطرح عليك: «متى ستنطلق في رحلة المشي؟». ولكثرة ما يطرح عليك هذا السؤال تبدأ الرهبة من الرحلة تتسلل إلى نفسك. فأنت ستصل إلى تلك القمة البيضاء العالية جداً التي تطل مائلةً على بخارى وكأنها ستسقط عليها في أي لحظة. ثم ستسأل إذا ما اشتريت كيس النوم وحذاء المشي والخيمة وجاكيت سميكة والحبوب والمراهم والخرائط، فينبهك سكان الشارع من الذين قاموا بالرحلة أو الباعة الى ما لم تكن قد تنبّهت لتحضيره، وعلى رأسها دفع رسوم الدخول إلى محمية أنابورنا والحصول على تصريح بالدخول، الذي سيأخذه منك رجال الشرطة على باب المحمية التي يزورها أكثر من 100 ألف مشّاء سنوياً. تعبر نقطة الدخول الى المحمية بعد تسجيل الاسم، ثم تبدأ الصعود على الأدراج، درجة تلو الأخرى إلى ما لانهاية... في البداية تعتقد بأن هذه الأدراج ستنتهي في مكان ما لتبدأ المشي، لكن هذا ما لن يحدث إذ إن الأيام العشرة التي ستمضيها في الصعود ستكون على الأدراج التي بناها النيباليون قبل ثلاثين عاماً لتسهيل المواصلات بين القرى الممتدة على هذه الأدراج، والتي تقع كل واحدة منها على بعد ثلاث ساعات تقريباً من الأخرى. وهذه القرى تحولت إلى مآوٍ ومطاعم واستراحات سيحتاج إليها الصاعد حتماً، للأكل والنوم والاستحمام. وقد أوجدت هذه الأدراج وظيفة «الحمّالين» التي يقوم بها عدد كبير من شبان بخارى. فالحمّال عدا عن مرافقته محتاجيه من المشائين، فإنه ينقل البضائع فوق ظهره إلى القرى المتناثرة على طول الطريق، من قناني الماء إلى مختلف أنواع البضائع والأغذية، إلى البرادات وأنواع الأثاث. كل شيء موجود في هذه القرى يُنقل فوق ظهور الحمالين. لذا فإن الأسعار ترتفع كلما ارتفعت القرية، بسبب كلفة النقل وندرة المواد صعوداً. وبعد سن معينة يتقن فيها الحمّال معرفة الطرق المؤدية إلى القمم، فإنه قد يتحوّل إلى دليل، أو يتزوّج امرأة أجنبية، وهذه حالات ليست نادرة، وقد يتقاعد في حقل قرب منزله، هذا إذا لم تدفنه الثلوج أو تقعده سقطة من جُرف، وهذه حالات ليست نادرة أيضاً، إذ إن لكل حمّال قصة يرويها عن موت صديق أثناء مهمة تسلّق أمام ناظرَيه. للوهلة الأولى، يمكن القول إن أنابورنا محمية طبيعية، إذ لا وجود لأي نوع من أنواع الملوثات فيها ولا تدخلها السيارات وممنوع الصيد في أرجائها، وهي تضم أنواعاً من النباتات لا توجد إلا فيها، وتختلف أنواعها كلما ارتفعت صعوداً، وفيها أنواع نادرة من الطيور والحيوانات، وبحيرات وأنهار جليدية، وشلالات طبيعية في كل مكان، وأشجار معمّرة تنبت فوقها أنواع هائلة من الفطريات والنباتات، فتبدو الشجرة الواحدة كأنها حديقة بحد ذاتها. إنها محمية طبيعية بكل ما للكلمة من معنى، لكنها ليست محمية بشرية، فسكانها تبدّلت حياتهم تبدلاً كبيراً مذ بدأ توافد السياح إليها بكثافة قبل ثلاثين عاماً. وتحوّل هؤلاء السكان إلى «أصحاب أعمال» سياحية بالدرجة الأولى، ونشأ التنافس بين سكان القرية الواحدة لجذب أكبر عدد من السياح إلى موتيلاتهم ومطاعمهم، ثم دخل إليها التلفزيون والقنوات الفضائية، والإنترنت، والكهرباء طبعاً، وكل المواد الغذائية المعولمة أي التي تجدها في أي مكان فوق الكوكب، مهما كان نائياً. فبات التراث المحلي أشبه ببضاعة تباع للسياحة، وبات الأطفال والنسوة يجلسون أمام شاشة التلفزيون أكثر من الوقت الذي يمضونه في الحقل أو على ضفة النهر، فقد دخلت العولمة من على الأدراج إلى عالم كان مغلقاً تماماً قبل ثلاثة عقود. ولوت ذراع استقراره الطبيعي، أي المبني على علاقة مشاركة مع الطبيعة، التي يحبون تلقيبها ب «الأم»، كما يلقبها جميع سكان العالم. الطبيعة الأم.