ممتلك ناصية أحلامه ومتمكّن من أدواته ووسائله في ايقاع العين بحقول الغواية بلا مسافة فاصلة بين شهواته في التلاعب بالعاطفة الخطيّة ولذائذه في اكتشاف كيمياء جديدة للعلاقات اللونية. عبدالرحيم شريف، الفنان البحريني الذي فرض على الساحة التشكيلية العربية، مفرداته وتيماته وأسلوبه في الأيقونية المعاصرة وكذلك في التعبيرية التجريدية، يقيم له مركز الفنون في المنامة معرضاً استعادياً لمراحله التي تعود الى فترة الثمانينات. أي بعد عودته من الدراسة في نيويورك، حين كانت ريشته تسعى في تقصياتها الى التقاط الملامح الإنسانية المنبثقة من ذاكرة الأمكنة، كالأسواق والمقاهي والحارات الشعبية، قبل ان يطرح اشكاليات اللوحة - المنصة في العلاقات ما بين الواقع العربي المأزوم وحرية التعبير اللوني. كل فكرة، كل خاطرة، كل شكل، يصير بين يديه عملاً قابلاً للتأويل. فالموضوع هو شيء لا يحتاج الى عناء كبير. تكفي إشارات بسيطة لكي يحضر، لكأنه مجرد ذريعة واهية للبدء بتبديد الشكل بين غابات الخطوط المتشابكة الأغصان ومساحات الألون المتقاطعة دروبها على غير هدى ولكنها تصل في لقاءاتها المتكررة الى حال الغرام. يبدو أن اي كلام عن المنصّة يحيل الى العدمية. ثمة دوماً حافة ظاهرة وأخرى متخفية بين الفخاخ اللونية. ربما ليس الانسان وحده على الحافة، بين مصير قاتم وسوداوية تبعث على القنوط، بل الانسانية تكاد تكون ممسوخة من فرط الرعب وهول الفواجع والمآسي التي تهب عواصفها في مخيلة عبدالرحيم شريف من دون ان يتمكن من ايقافها او الحد من تدخلاتها في صلب النص التشكيلي الذي يغدر بالموضوع الصامت على حين غرة، حين تغافل القنابل اصصاً ساكنة في غرفها الآمنة، لكي تحل محل الأزهار. وثمة ايضاً ما يبرر وجود القرود والكلاب المذعورة والقطط النائمة وأسماك القرش التي تعوم في سماء المخلية. إنّها اجزاء مفككة من عالم قيد التكوين أو ربما على حافة الانقراض. عالم قاسٍ غير مترابط في حال نكران لذاته وسط الشكوك التي تساوره بما يحيل الى الفردية والتوحد. والفردية طاغية ومسيطرة... لذا يعيش المرء حال الانفصام بين الاقامة والارتحال الدائم. الى أين؟ لا مفر الى صورته الهاربة، الى ظله السادر المسنون، الى المدينة التي تضلّ خطوطها وتنهزم تحت خطاه. فالشخوصية لديه ترتدي حال الشبحية، والأشباح تتردد في فضاء اللوحة كالخيالات والظلال لفرط ما هي مرهونة بطرائق التعبير اللوني، وضربات الخطوط الهابطة كزخّات المطر التي تغمر الأشياء وتبللها في زيغ الأمكنة. هكذا تنقسم اللخطة الى نقاط ملونة مثل بالونات الأعياد وتتحول المساحات الخالية زخرفاً وهّاجاً، فتبتهج الأشياء بمحيط مأهول بمقامات اللون والشكل. هذا الابتهاج شبيه بدروس الموسيقى وعالم الآلات الوترية وأشكالها العملاقة حين تقف ككائنات حية في فضاء الغرفة او تستريح بين روّادها. عندها يصبح للحياة طعم آخر... طعم حلو. أعمال عبدالرحيم متورطة بكل ما له صلة بالدهشة البصرية، وهي متعمّدة لديه ومشغولة بتدبير يرتدي حلة من العفوية الارتجالية وفعل الأداء التعبيري الخالص المتمكّن والمنتهية أفعاله في اللحظة الفورية. لذا يستطيع ان يلتقط نفسه بالسرعة نفسها التي يستطيع فيها الرجل المشبوه الفارَ من العدالة ان يلتقط قبعته ليضعها على رأسه ويمضي الى المجهول. الشبهات هي كل المسألة على ضوء مقولة بيكاسو «انا لا أفتش بل أجد». وعبدالرحيم شريف محترف في أعمال المداهمة والقبض على الإحساس في ذروته الشعورية. فهو يجد نفسه بين تيماته المتنوعة بلا تناقض. وهو يتنقل بسلاسة بين مفرداته، التي تستلهم الطبيعة أو أفراد العائلة، أو موتيفات مقطوفة من الحياة اليومية، وثمة محطة استرجاعية دائمة هي بورتريهات «الرجل ذو القبعة» التي اطلقت شهرة عبدالرحيم في ايقونيته المعاصرة، اعتاد ان يُلبسها مزاجه الخاص ويضفي عليها شتى التعابير. وجوه بنظرات مريبة لكأنها خارجة لتوّها من الذاكرة الهوليودية، بل من ذاكرة إقامته في الولاياتالمتحدة وباريس. إنها ذاكرة المعطف والقبعة والمطر والتجوال في المدينة. فالحياة مرهونة بالسرعة، وعبدالرحيم شريف مفطور على السرعة التي تتجلى في روح الخربشة في الرسم والمغامرة والبداهة التي تعطي اللوحة قماشة الرسم التحضيري. وكم يفيض تنوعاً في طريقة التلوين، لفرط ما يستنطق الفراغ اللوني الصامت الذي يصير مقلماً او مزخرفاً أو ملطخاً متحرراً، ولكن، ثمة دوماً حضور للّون البرتقالي الحار اللذيذ والأزرق البنفسجي والاخضر والأسود والوردي والتركواز... والقائمة اللونية طويلة. لكأن اللوحة تتنفس من خلال اللون المحمّل بالإضاءات حين ينبسط او يصير مثل سحابة خفيفة اسفنجية في سماء متقطعة. ومثل الغارق في أوهامه يطل رأس الرجل ذو القبعة فجأة وهو داخل حوض الاستحمام في حال غير المندمج. انه ليس الفضاء التخييلي فحسب ولا الواقع الافتراضي، بل ربما الصورة الغريبة المركّبة التي يسعى من خلالها عبدالرحيم الشريف إلى ردم الهوة بين الخاص والعام، بين الحميمي المغلق والمجتمعي الموارب، بين الأنا والآخر.