«أتحب اللون البني أم اللون الأزرق؟» كانت صاحبة النزل الفرنسية تسأله، فالأسعار هي الأسعار، لكن النزيل لن يخطئ الطريق إلى اللون الغامض الذي يعبر عن مزاجه التاريخي، وهو مزاج يجمع بين مرايا حياة متعددة الوجوه. فلون الغرين في دجلة كما يقول المسافر المنفي كان بنياً، والنزيل هو الآخر كان بني الأحزان كما هو الخبز الفرنسي. تلك كانت وصفته. فالشاعر العراقي محمد سعيد الصكار الذي غاردنا قبل يومين في باريس، كان يصف غربته كما لو أنه يضعها في حمى صراع بين لونين: لون يتنفسه ليكون قادراً من خلاله على الاستمرار في العيش، وآخر يعيشه لكي يقوى على تفسير ما يجري له، وهو الذي عاش الجزء الأكبر من حياته منفياً. بالنسبة له وهو الخطاط المحترف، فإن الشعر لم يكن ممارسة تزيينية، كما هو الخط تماماً الذي لم يكن تعليقاً على واقعة مقدسة. هل كان الصكار شاعراً قبل أن يكون خطاطاً؟ لم يكن السؤال ليعني أحداً يوماً ما. ف (مَن سبق الآخر؟) صار سؤالاً تفصليلياً في حياة عاشها الصكار مخلصاً للحرف، لذاته. كتاباه الشعريان (أمطار 1962 وبرتقالة في سَوْرة الماء 1968) كانا بمثابة تمهيد لتمرد شعري كانت ستينات القرن الماضي ملعباً رحباً لمغامرات شعراء الستينات. حين ظهوره كان الشعر الحديث قد تخطى عتبة التأسيس، بل صار يقف في مواجهة استحقاقات جديدة، هي ما أملاها عليه موقفه الفكري والتقني من العصر لا من نفسه. لقد كان على الصكار وعدد من شعراء حقبته من بينهم يوسف الصائغ، فتحُ الباب أمام جيل شعري سيكون عليه أن يصل بين تجربة التمرد على أصول الشعر العربي والحياة المعاصرة، بكل تحولاتها الثورية الصاخبة. غير أن الصكار، وعلى رغم الدور الأساسي الذي لعبه في مجال تغيير الذائقة الشعرية لم يكن يجد في ممارسة الشعر خياراً عملياً. كان لديه ما يفعله واقعياً. لقد اخترع الحرف الطباعي الذي سيسمى باسمه. لم يكن إلهام الكمبيوتر الرقمي قد تمكن من اختزال الحرف العربي في أشكال محددة حين اهتدى الصكار إلى أبجديته الشكلية. تلك الأبجدية لم تكن إلا نبوءة شاعر، على رغم من أنها ظلمته حين قدمته خطاطا ولم تسمح بظهوره شاعرا. ولكن مَن قال أن الصكار كان يفضل الظهور شاعرا على التأنق بخيال خادم اللغة الذي ينظف الطريق أمام الحرف لكي يظهر على حقيقته، كائنا يزيده غموضه جمالا؟ وإذا كان الصكار لم يسمح لأوهام الرسم أن تغزوه، فكان مخلصا للخط،، الذي كان يعتبره نوعا من الخلاص الروحي فانه في الشعر وقد كان مقلا قد حرص على تعبئة الكلمات بأكثر ما تنطوي عليه من شحنات تعبيرية. كان يتحدث كمن يسأل، وهي صورته الخالدة التي ينقلها صوته الناعم الذي كان يصل جليا على رغم انخفاض درجته. سيكون علينا دائماً أن نجد سر الهدوء الشعري في ذلك الشغف العميق الذي عاشه الصكار وهو يقلب الحرف ليعثر على شكله الخفي الذي لم يظهر من خلاله من قبل. لذلك، يمكنني القول إن الصكار كان باحثاً في شؤون الحرف ومقاماته وأحواله أكثر مما كان خطاطاً محايداً. لقد مثل الحرف أمامه كائناً مستقلاً، لم تعكر المعاني المشاعة مزاجه. لذلك، لم تكن ممارسة الخط بالنسبة للصكار وهي مهنته التي كانت مصدر رزقه الوحيد، إلا نوعاً من مكابدة الوقوف على الحافات. فما بين الغزل الصوفي الذي يرى في الحرف اختصاراً لحادثة مقدسة لم يرها أحد، وبين استعماله في وصف شؤون الحياة العملية، مسافة كان الصكار قد اختصرها بإخلاص وثقة شاعر كان حريصاً على أن يظل شيء من لغته متحرراً من المعاني. كان الصكار مقلاً في كتابة الشعر كما نعرفه، غير أن كل حرف خطته يده كان يغص بشعر لم نتعرف إليه بعد.