لم تكن الكاتبة البيلوروسية سفيتلانا أليكسيفيتش تحتاج إلى أكثر من ستة كتب لحصد جائزة نوبل للآداب العام الماضي، على خلاف المتوّجين بهذه الجائزة قبلها، الذين تتميّز أعمالهم الأدبية بغزارتها. كتب وضعتها أليكسيفيتش بالروسية، ويمكننا اليوم أن نقرأ الترجمة الفرنسية لثلاثة منها («لا تملك الحرب وجهاً نسائياً»، «آخر الشهود» و»التوّسل») في مجلّد واحد صدر حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية. وهذه مناسبة نغتنمها للتوقف عند مجمل إنتاج هذه الكاتبة الذي يتميّز بطبيعته أيضاً عن سائر أعمال مَن سبقها على الجائزة المذكورة. مجيء أليكسيفيتش إلى عالم الكتابة كان من طريق الصحافة، ومثل مواطنها الكاتب أليس أداموفيتش، نشطت في بداية مسارها، وعلى مدى سبع سنوات، في جمع مئات الشهادات لنساء شاركن في الحرب العالمية الثانية داخل الجيش السوفياتي. شهادات مؤثّرة نقرأها في كتابها الأول «لا تملك الحرب وجهاً نسائياً» (1985)، وتستمد كل قيمتها من كشفها ما اختبرته تلك النسوة من معاناة وعذابات في جحيم المعارك، وبالتالي من ابتعادها كل البُعد عن السرد البطولي الذي روّجت له السلطات السوفياتية لمصلحة سردٍ واقعي وحميم يعكس من أقرب مسافة الوجه الحقيقي والمرعب لهذه الحرب. وفي هذا السياق يندرج أيضاً كتاب أليكسيفيتش الثاني «آخر الشهود» (1985) الذي جمعت فيه ذكريات نساء ورجال عاشوا أهوال الحرب العالمية الثانية أثناء طفولتهم، قبل أن تنتقل إلى حرب أفغانستان في كتابها الثالث «توابيت الزنك» (1990) الذي يتألف من مئات الحوارات التي أجرتها الكاتبة مع مقاتلين من الجيش السوفياتي، ومع أمّهاتهم وزوجاتهم. كتاب تمكّنت فيه من تدمير أسطورة هذه الحرب، أسطورة الجنود السوفيات الذين كانت وسائل الإعلام الرسمية تصوّرهم وهم يزرعون أشجار تفاح في القرى الأفغانية، في حين أنهم كانوا في الواقع يلقون القنابل على منازل من طين تختبئ فيها أمهات مع أطفالهنّ. جنود فقدوا إثر هذه الحرب أصدقاءهم وأوهامهم وغالباً توازنهم فتحوّلوا إلى مجرمين داخل مجتمعهم. وبينما نصغي في كتاب أليكسيفيتش الرابع «مسحورون بالموت» (1995) إلى اعترافات مواطنين روس اكتشفوا يوماً أنهم خُدعوا طوال حياتهم بأسطورة الشيوعية، التي كانت ترتكز على عماهم وتتغذّى من تضحياتهم، فحاولوا الانتحار، ترتفع في كتابها الخامس، «التوسّل: أخبار العالم بعد القيامة»، الذي تعتبره الكاتبة الأهم داخل أعمالها، أصوات رجال ونساء تعرّضوا لكارثة تشيرنوبل النووية، من خلال شهادات مؤثّرة نتعرّف فيها على مشاعرهم وعذاباتهم وحالتهم الذهنية ورؤيتهم للحياة بعد الحادثة. أما في كتابها الأخير «نهاية الرجل الأحمر» (2013)، فتروي ذاكرة مأساة تدعى الاتحاد السوفياتي عبر شهادة عشرات الأشخاص الذين ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع الروسي. أشخاص ما أن نصغي إلى أصواتهم حتى نفهم ما عاشه مواطنو هذا الاتحاد منذ ستالين حتى غوربتشوف، وبالتالي أسباب سقوطه المدوي. وعلى ضوء هذا العرض السريع لمضمون كتب أليكسيفيتش، نستنتج أن الجانب الوثائقي والتاريخي حاضر بقوة فيها. ولكن هذا لا يعني أنه يحضر على حساب القيمة الأدبية لهذه الكتب. فخلف الصورة الدقيقة التي تلتقطها لحقبة أو حرب أو شعب، تسعى الكاتبة إلى الإجابة عن أسئلة تتسلط عليها مثلما تسلّطت على دوستويفسكي قبلها، وأبرزها: لماذا نحن جاهزون دوماً للتضحية بحرّيتنا؟ وكيف يمكن للرغبة في صنع الخير أن تفضي إلى شرِّ مطلق؟ وكيف يمكن تفسير سوداوية النفْس البشرية؟ في حال اعتبرنا أن القيمة الأدبية لنصّ ما تكمن في أسلوبه أو الموسيقى التي تحمله أو حبكته، وبالتالي في النظرة الشخصية التي يلقيها على العالم، تشكّل أليكسيفيتش استثناءً لهذه القاعدة من منطلق أن الصوت، أو بالأحرى الأصوات التي ترتفع داخل كتبها ليست أصواتها، بل تنتمي إلى أشخاص أرادت الكاتبة إيصالها إلى مسمعنا. أصوات نساء ورجال وأطفال كانوا شهوداً أو ضحايا أحداث تاريخية أو راهنة، غالباً مؤلمة، كي لا نقول رهيبة ومأساوية. وإذ يمكن أن نتحدث إذاً عن طريقة أو منهج عمل خاص بها يرتكز على الإصغاء والثقة والأمانة والنزاهة، علينا ألاّ ننسى أن فنّ كتابتها يقوم على إعداد جماعي يتم فيه الارتقاء بما يعود إلى شخصٍ ما إلى ما هو أكبر بكثير منه، أي تاريخٍ أو عالمٍ أو نظام. هكذا يصبح كل شيء في كتبها شخصياً وفي الوقت نفسه غير شخصي، تاريخياً ولكن أيضاً محسوسٌ، تعبره مادة انفعالية وعاطفية، رغبات، مخاوف، واجبات، متطلبات، بينما تستمد الشهادات المسجَّلة قيمتها من قدرة أليكسيفيتش على توجيه شهودها بطريقة تساعدهم على الكلام، على تحرير كلماتهم وبلوغ حقيقة ذات جوانب متعددة ومتضاربة. من جهة أخرى، لا تسعى الكاتبة إلى ترتيب السرديات المتعددة الأصوات التي تجمعها أو إلى محو ما يحضر في شكل اعتباطي داخلها أو فرادة الكلمات التي تعبرها وتغذّيها، بل تحافظ على مادّتها كما هي، فائرة ومتدفّقة، أو معرقَلة بفعل الانفعال أو الحصر. وبذلك، تحضر أمامنا الحالة الخيميائية الغريبة التي تعتري الشاهد أثناء سرد قصته وتحضّه إلى قول ما لم يقله من قبل، مستقياً الكلمات المناسبة من حيث لا ندري، حين لا تفرض هذه الكلمات نفسها على سرديته بإرادتها الخاصة. وتحضر أيضاً أمامنا تلك الحالة الخيميائية الأخرى التي تمنح شكلاً لكتب أليكسيفيتش، حيث يبدو اختيار المقاطع والمونتاج مفتاحَيّ عملٍ لا يتحكّم فيه سوى هاجس بلوغ سرديات قابلة للفهم وموقَّعة، تضارع في طريقة تكوينها وتسلسلها الأعمال الروائية أو القصصية الخرافية. في أحد الحوارات التي أجريت معها، أشارت الكاتبة إلى أن الصحافي الذي تنقصه المسافة من الأحداث والمؤرّخ الذي يعمل انطلاقاً من أرشيف لا يسعيان خلف حقيقة من لحمٍ ودم، فالمسافة والحياد والموضوعية في قلب مسعياهما. قبل أن تضيف: «لا يهتم التاريخ إلا بالأحداث. الانفعالات تبقى على الهامش ولا يُسمح لها بالدخول إلى صفحاته. أنا أنظر إلى العالم بعينيّ كاتبة أدبية». بعبارة أخرى، لا حاجز في كتبها بين المعرفة والعواطف، بل تشابُك يسحب الحقيقي نحو الاستيهامي، والواقع نحو الهذيان. وبالتالي، لا نجد الحقيقة الموضوعية من جهة والرؤى الذاتية للشهود من جهة أخرى، بل هو نفسه الشخص الذي يؤدّي عمله المتواضع وينزل إلى الشارع للدفاع عن حريته في وجه الدبابات، أو الشخص الذي يقرأ تشيكوف ويساعد على ترحيل سكّان القرى التي تعرّضت للإشعاعات النووية، هذا حين لا يُطلب منه نقل المواد المشعّة بيديه كما لو أنها حطبٌ أو أوراق شجر. باختصار، استحقت أليكسيفيتش جائزة نوبل للآداب بجدارة لنجاحها في الإمساك بالحياة في كل تعقيدها وحدّتها، ولوضعها تحت أنظارنا مشهداً يتجاور داخله النبيل والجبان، البطولي والخسيس أو الإجرامي. مشهدٌ مؤلم، وأحياناً جنوني، لكننا نتأمله بانتباه وقلق ورأفة... لأنه مشهد عالمنا.