تقريباً كانت الجملة الوحيدة التي رد بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على وفد حكومة إقليم كردستان ومطالبه: «نعم، لكن الخزينة العامة خاوية». حكومة أربيل لم تدفع الرواتب الشهرية لأكثر من مليون موظف عام، منذ أكثر من أربعة أشهر، ومدينة لعشرات الشركات النفطية وللكثير من القروض الدولية، وتتحمل أعباء أكثر من مليوني نازح ولاجئ سوري وعراقي، لم تستطع حتى الحكومة المركزية تحمل أعباءهم الاقتصادية والإدارية والأمنية. فوق ذلك فإنها تخوض حرباً مفتوحة مع تنظيم «داعش» في جبهة تمتد لأكثر من ألف كيلومتر، وتعاني من مشاكل وتناقضات سياسية داخلية. في مقابل كل ذلك فإن الحكومة المركزية لا تدفع لها حصتها الدستورية من الموازنة العامة (17 في المئة من الموازنة العامة). في مقابل تلك الشكاوى الكردية، فإن الحكومة المركزية شكت للمفاوضين الأكراد سوء أحوالها العامة، من مواجهتها ل «داعش» والميليشيات المحلية التي باتت أقوى من الدولة ومؤسساتها في أكثر من منطقة من البلاد، خصوصاً في الجنوب. وأنها تعاني من تدخلات إقليمية ودولية في شؤونها وتوازناتها الداخلية. وأن تدهور أسعار النفط بات ثقلاً كبيراً على كاهل الموازنة العامة. في ظل كل ما يجري، فإن حكومة أربيل تجترح سياسيات وخيارات خاصة، تزيد من الضغوط على الحكومة المركزية، وتسعى إلى إجراء استفتاء عام على مستقبل إقليم كردستان، يزيد من سوء الفهم واللغط العام في البِلاد، فيما يجب أن تسعى حكومة أربيل إلى أكبر قدر من التواصل والتوافق مع بغداد لمواجهة تنظيم «داعش»، وبالذات في معركة الموصل المرتقبة. في شكل دقيق، نحن أمام مركزين سياسيين متباينين، يملك كل منهما جملة من الشكاوى والملاحظات والانتقادات بحق الآخر، تصل إلى حد اتهامه بأنه المتسبب الرئيس في سوء أحواله. لكن كلاً منهما لا يستطيع أن يتخلى عن الآخر. وما كانت جملة «النصائح والتحذيرات» الدولية والإقليمية التي وجهت إلى حكومة إقليم كردستان العراق في الفترة الأخيرة، مع صعود خطاب الاستقلال في شكل معلن، إلا دليلاً واضحاً على ذلك. بالأخذ بالمعايير التقليدية لتوازن القوى في المنطقة، خصوصاً عقب الحرب الأميركية الأخيرة على العراق والربيع العربي، فإن هذا التموضع بين حكومتي أربيل وبغداد، حيث شكاوى متبادلة وشبه انفصال موضوعي، وحيث لا يمكن لأي طرف أن ينفصم عن الآخر، وأن تموضعهما هذا يمكن أن يستمر سنوات كثيرة، من دون أن يستطيع أي طرف فصم علاقته عن الآخر. يبدو الوضع ناتجاً من تراكب وتفاقم ثلاثة مسارات في شكل متواز. فقد فشلت حكومة بغداد في أن تكون «الحكومة المركزية»، حكومة بمؤسسات مركزية مستقلة تجاه الأطراف السياسية، مصبغة بروح الدولة وحياديتها تجاه الصراعات والذاكرة الاجتماعية الطائفية والقومية، بل حتى حكومة لدولة صغيرة نسبياً في إقليم سياسي قلق ومتصارع، تختار الحياد والتوازن في هذه العلاقات الإقليمية. على عكس ذلك، تصرفت الحكومة المركزية، من فترة حكم نوري المالكي الأولى وحتى الآن، على أنها حكومة للتيارات السياسية الشيعية، موالية لإيران في الصراع الإقليمي، وموالية لكتلة مجتمعية وطائفية وقومية عراقية بذاتها، تخوض صراعاً مفتوحاً مع بقية العراقيين وأحزابهم السياسية. هذا الأمر أزاح الحكومة من دورها وهويتها، وبذا سحب منها أدواتها وطاقتها على فرض جملة من الواجبات السياسية والإدارية والاقتصادية على الأطراف، نابعة من صلاحياتها وحقوقها الدستورية الكثيرة. فأي حق أخلاقي ووجداني يمكنه أن يمنح هذه الحكومة المركزية محاسبة الأطراف السياسية والإدارية، وهي المتهمة بإهدار أكثر من 600 مليار دولار من عائدات النفط، منذ قرابة العقد، ذهبت قرابة نصفها في عمليات الفساد المركزية، وفق التصريحات الأخيرة لرئيس لجنة الرقابة المالية في البرلمان العراقي، الراحل أحمد الجلبي. المسار الآخر نتج من تصاعد الوزن السياسي النسبي لأكراد الإقليم. فالاستقرار السياسي الذي تحقق في إقليم كردستان، والذي تحول في حيز مهم منه إلى تنمية إدارية واقتصادية تفوق نظيرتها العراقية المركزية في شكل كبير، ترافق مع صعود للمسألة الكردية في كل من سوريا وتركيا، وتحول الأكراد إلى طرف سياسي في عموم التوازنات الإقليمية. ما عناه تطور هذا المسار بالذات أن مسألة انفصام كردستان العراق عن الكيان العراقي لا تمس العراق ومستقبله الكياني فحسب، بل مجموع الكيانات الإقليمية والتوازن الدولي. خصوصاً أن هذه الكيانات الإقليمية تعاني من اضطرابات كبيرة في التوزان في ما بينها، بسبب الانسحاب الأميركي الإستراتيجي من المنطقة، وإحساس هذه الكيانات بأن شكل التوازن الذي سوف تستقر عليه دول المنطقة، يحتاج الى أكثر من قرن كامل. وفيما لا يساعد الصعود الكردي في الانفصام عن المركز، فإنه أيضاً لا يعتبر عاملاً مساعداً في حلحلة القضايا الداخلية في ما بينهما. فالإقليم لم يعد يرى نفسه مجرد طرف له مطالبات من المركز، بل أصبح طرفاً ندّياً لهذا المركز، يجب أن يكون له دور كامل في تحديد خيارات العراق وهويته، وإلا فإنه يستطيع بكل حزم عرقلة كل شيء. آخر المسارات يتعلق بتحطم «الحلم الأميركي» في العراق، حيث كانت الرؤية قبل عقد ونيف ترى العراق كياناً شبيهاً بألمانيا أو اليابان، ومنبعاً لإغراء الدول الإقليمية المحيطة به. وهو أمر لا يعود فشله الى الحكومة المركزية أو الإقليمية فحسب أو الى الأحزاب العراقية، وإن ساهم كل منها بجلاء في تحطيم هذا الحلم، بل الى خطة ورؤية إقليمية واضحة المعالم، قادها النظامان الإيراني والسوري، حيث تحمل كل منهما تنفيذ حيز محدد من إفشال المشروع العراقي، لئلا ينتقل بأي شكل الى كيانيهما المجاورين. وأطلقت سياسات إدارة أوباما الانسحابية غير المسؤولة من العراق والمنطقة، رصاصة الرحمة على ذلك «الحلم»، بل فاقمت من اندلاع ديناميكيات مناقضة لذلك تماماً، محوّلة العراق إلى بؤرة توتر لكل الإقليم السياسي. تحطّم هذا الحلم، عكّر العيش في الكيان العراقي، بعدما بات العيش فيه يعني الخضوع للكيانات الفاشلة، وكذلك بات الانفصام عنه يكلّف بحراً من الدماء. * كاتب سوري