يفرض شارع «المملكة الصغيرة» أو حي سيدي يحيى (سيدي يايا) العاصمة الجزائرية تأثيره على الزوار الأجانب وفئات من المواطنين، منذ أن برز من تحت حطام «العشرية السوداء» فتحوّل من مصب لوادٍ إلى مزار راقٍ فرضته التحوّلات الاجتماعية، والأثرياء الجدد أيضاً. وتتعدد التسميات الشعبية لحي سيدي يحيى الممتد من المركز التجاري زمزم إلى نقطة مفترق الطرق الفاصلة بين حيدرة وبئر مراد رايس، عاكسة واقعاً جديداً يساير في شكل خاص اهتمامات فئات معينة من المجتمع الجزائري، الذي أوجد من خلاله ملاذه لمجاراة الموضة والأناقة والحيوية، وتلصق به مصطلح «المملكة الصغيرة». ففي ظرف قياسي، استقطب المكان الباحثين عن السياحة والترفيه والتسوّق، بل حتى الطامحين إلى اختصار سلّم المجد السياسي والاقتصادي مزحزحاً حي حيدرة الذي شكّل في السابق جمهورية الأرستقراطية وملاذاً لإقامة كوادر الدولة وكذلك الإرث التاريخي لشوارع ديدوش مراد المعروف بميشلي، والعربي بن مهيدي «ديزلي سابقاً» ومقام الشهيد، التي فقدت بريقها مع غياب أي تجديد عمراني لبنايات العاصمة. وادٍ فجمهورية للأثرياء وسيدي يحيى هو في الأصل ضريح لأحد الأولياء الصالحين، حيث يوجد مثواه بأعلى الهضبة في قبة قديمة جداً وسط المقبرة. وحيكت حول حياته أساطير عدة، فوصفه بعضهم بالقادر على شفاء المريض من الوساوس والجنون وحتى العنوسة والعقم، بينما يروي آخرون حكايات شعبية عن سيدي يحيى الطيار وإخوته الستة الذين ينحدرون من منطقة القبائل، ويصفونهم بالزاهدين الصالحين، أينما حلوا وارتحلوا. ويظهر أن الحي الراقي أخذ شيئاً من بركات الولي الصالح، فقبل سنة 2000 لم يكن أحد يعرفه، وفي إمكان الزائر أن يشبع أذواقه في إيجاد الماركات العالمية، مثل «جيوكس» و«نايكي» و«كويك» و«كريستيان ديور» و«ديكسيت». كما يمكن في الموقع عينه إيجاد «الصفا والمروى»، وهو مركز تجاري يديره مستثمر سعودي. فيما تصطف عشرات المحلات الأخرى مكونة حلقة في سلسلة محلات المجوهرات والمطاعم ومحلات مشهورة مثل «مانغو»، تقدّم علامات الألبسة مثل «بيار كاردان» و«كانزو» و«أرماني»، «بالزيليري» و«تريساردي»، متاجر يديرها كنديون وإسبان وإيطاليون ومغاربة. وفي الواجهة الأخرى من الشارع الرئيس، تجد قاعات الشاي «كويك» و«فيلودروم»، ومقاه مكشوفة يرتادها حتى السياح ورجال أعمال لبنانيون ومصريون وفرنسيون وإيطاليون وألمان. فلا عجب أن يتناهى إلى مسامع الزوار أو الغرباء حي «سيدي يايا» الراقي بدل حي سيدي يحيى، الذي لم يكن يوماً حكراً على العائلات الثرية بل حتى بالنسبة للفضوليين والطبقات المتوسطة، بغرض التسوق والترفيه. وهي تسمية أخرى لصيقة به أصبحت مثار تندّر من كوميديين محليين حققوا شهرة شعبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بتقليدهم الساخر لما يحدث في «المملكة الصغيرة» من تباهي شرائح من المجتمع أمثال الفنان إبراهيم اربن اربن، لا سيما أن للجنس اللطيف حظاً من التردد على مقاهٍ شهيرة حتى ساعات الصباح الأولى، وتدخينهم علناً النرجيلة أو السجائر من دون أن ترمقهم النظرات المريبة. وهي خصوصية توافرت في حي ارتبط في المخيلة الشعبية بفئة الإرهابيين التائبين والمستفيدين من أموال الأزمة الأمنية، التي ضربت البلاد عقداً من الزمن ومهّدت لإقامة مشاريع لتبييض الأموال. لأن المكان يستقطب من باب الفضول جزائريين كثراً من مختلف الشرائح والفئات. ويطلق عليه بعضهم اسم «حي البقارة» التي تعني في لغة الشارع الجزائري «الناس حديثي العهد بالنعمة والثراء الذين تخلوا عن الفلاحة ونزلوا إلى الحضر»، خصوصاً أن أسعار بعض المقتنيات تفوق الخيال وتتجاوز قدرة المواطن البسيط على تقبّلها. خصوصية غير معهودة ويرفض سكان وأصحاب محلات في الحي الراقي أي نوع من تلك التسميات، بل يفضّلون تسميته بالحي العادي الذي يسعى إلى توفير مكان لائق للجزائريين وزوارهم من الأجانب، يوفّر شيئاً من خصوصية المجتمع التقليدي. لذا عمد صاحب مطعم «مريومة» الذي يحمل البصمة الجزائرية، إلى تقديم الأكلات المحلية في سياق تقليدي يعكس التنوّع الثقافي والاجتماعي الذي تزخر به مناطق البلاد. ويصادفك «استثناء» زحمة السيارات حتى خلال الليل، كون الجزائريين ألفوا عاصمة بلدهم تنام باكراً. ومع أن الحي لم يرقَ بعد إلى الشوارع الكبرى ذات المقاييس العالمية، التي يبلغ عرضها ال40 متراً، إذ لا تزال الحفر تملأ أرصفته فضلاً عن عدم اكتمال مبانٍ عدة، إلا أنه يعدّ واحداً من الأحياء التي تجذب كوادر الوزارات والمؤسسات والمتقاعدين والمثقفين ورجال الأعمال، حيث يلتقون إلى طاولات عقد الصفقات السياسية، حتى أضحت مقاهيه فضاء للنميمة السياسية. وعلى رغم ذلك، ترفض نخب مثقفة توصيفه بالحالة المتفرّدة. ويرى الصحافي المتخصص في الشؤون الثقافية فيصل شيباني، أن حي سيدي يحيى وما يحتويه من مرافق لا يلبّي حاجات المثقفين، لأن غالبيتهم تفضّل الالتقاء وتبادل الآراء في مقاهي وسط العاصمة. أما صالونات الشاي في سيدي يحيى، فأصبحت قبلة للشباب وأصحاب المال والأعمال. ويتابع شيباني موضحاً ل»الحياة»: «حتى السياسيين يبقون بعيدين عن هذه المنطقة ويفضّلون الأماكن المغلقة، بالتالي لا يعدو سيدي يحيى إلا مكاناً للترف والسهر لأصحاب المال، كما يرتاده الشباب لمعاكسة الفتيات، في حين يأخذ الفضول الناس البسطاء لاستكشاف هذا المكان الذي تبدو فيه أسعار كل شيء مرتفعة، كما أنه قبلة «علية القوم» من مسؤولين كبار وأصحاب نفوذ ومال.