بعد ستّة كتب نشرها الوزير السابق فوزي صلّوخ حول القضايا السياسية والدبلوماسية المختلفة، أصدر أخيراً كتاب مذكرّات بعنوان «درب وسنابل» عن دار المنهل اللبناني. يرصد فيه صلّوخ حياته منذ ولادته في بلدة القماطية عام 1931 ولغاية تسليم أوراق اعتماده كسفير في بلجيكا وانتهاء عمله داخل السلك الدبلوماسي وعودته إلى لبنان عام 1995. يفتح الكتاب ملّفات خمس وثلاثين سنةً من العمل الدبلوماسي الذي يعتقده البعض مجرّد «متعة وسفر وعشاء طيّب ونبيذ فاخر...» ليكشف عن خفايا وحيثيات هذا العالم الذي يُخبّئ تحت غطائه المخملي عملاً شاقاً وجاداً ورصيناً. ويترك خاتمة كتابه الذي يقع في 495 صفحة من القطع الكبير مفتوحة لجزء ثانٍ يُعاين فيه الشقّ الآخر من حياته المهنية بعد تسليمه مهمات وزارة الخارجية والمغتربين بتاريخ 19 تموز 2005- وقت احتدام المحنة اللبنانية الداخلية - إلى تاريخ انتهائها عام 2009. ارتأى صلّوخ تقسيم كتابه إلى عشرة فصول، خصّص الفصلين الأوّل والثاني منها إلى المولد والنشأة والدراسة ومرحلة التفتيش عن العمل مؤكّداً أنّه اختصر الكثير من ذكريات هذه السنوات الثلاث وعشرين في صفحات يوازي عددها عدد تلك السنين كي لا يُثقل على القارئ بما لا يطيق قراءته. فيُركّز على دراسته الابتدائية في مدرسة الضيعة ذاكراً أسماء أساتذته وبعضاً من زملائه ومن ثمّ التحاقه بالجامعة الأميركية في بيروت وتخرّجه منها حاملاً إجازة في العلوم السياسية عام 1954 مروراً ببعض التفاصيل الدقيقة والمؤثرّة في نفسه كالتطوّع مع بعض الأصدقاء لتعليم اللغات في المدارس الليلية والندوات التي حضرها والمظاهرات التي شارك في تنظيمها دفاعاً عن القضية الفلسطينية أو احتجاجاً ضدّ حلف بغداد، وصولاً إلى فترة البحث عن عمل يضمن بناء المستقبل، وعمله في تدريس التاريخ والجغرافيا مدّة سنتين في الكليّة اللبنانية في سوق الغرب، ومن ثمّ اشتراكه في مباراة لوظيفة ملحق في السلك الخارجي ونجاحه فيها. يفتتح صلّوخ الفصل الثالث بمشهد وصول طائرة الخطوط الجويّة اللبنانية في مطار روبرتسفيلد - ليبيريا كواحد من موظفّي الفئة الثالثة في السلك الخارجي إلى البعثات اللبنانية في الخارج ليُعلن بداية مشواره في العمل الدبلوماسي. ويذكر في هذا الفصل التحوّل الكبير الذي غيّر حياته بعدما نقله من حياة العزوبية إلى الحياة الزوجية عند لقائه بالشابة اللبنانية هند بسمة على إثر زيارة قام بها إلى الجاليات اللبنانية. وعن هذا الحدث يقول: «وأحمده تعالى إذ أنّ هذا التحوّل كان خيراً ونفعاً وفائدة، فنقلني من حياة العزوبية الانفرادية إلى الحياة الزوجية السرية». وفي الفصل الرابع يقتفي الوزير السابق سيرته في سيراليون حيث غدا رئيس بعثة لبنان فيها ومن ثمّ يختصر سبع سنوات من حياته قضاها في العمل في الإدارة المركزية في الفصل الخامس الذي وضعه تحت عنوان «الإدارة المركزية: 1971-1978». أمّا الفصلان السادس والسابع فخصّصهما لتدوين ذكرياته كسفير لبنان في نيجيريا وبعدها في الجزائر. إلاّ أنّ الفصل الثامن خصّصه لعودته إلى الإدارة المركزية قبل أن يختم مذكرّاته من خلال الفصلين الأخيرين اللذين تناولا حياته كسفير لبنان في النمسا وبلجيكا. في هذا الكتاب يقصّ صلّوخ حكاية مشوار طويل اختار له عنواناً لافتاً مارس من خلاله عن قصد أو غير قصد فعل استقطاب للدخول إلى النصّ. «درب وسنابل» يرمز في باطنه إليى ميل صلّوخ للإيحاء الذي يسوق من خلاله القارئ نحو مناطق أرحب في التفكير. ففي هذا العنوان دلالة على افتخار وحب وعشق الكاتب للمسيرة التي دوّن تفاصيلها في كتابه. إنّ صاحب الكتاب عرف كيف يوسّع دوائر الدلالة من خلال كلمة «السنابل» التي إن دلّت فإنها تدلّ أولاً على الخير والخصوبة والحياة. الأمر الذي يكشف قبل المضي في قراءة الكتاب عن حبّ وفخر وعشق الكاتب للدرب الذي زرعه بيده حتى أزهر خيراً وبركة. يقول بعضهم إنّ كتابة المذكرات تُعبّر عن النشاط الذهني والعملي في حياة الإنسان من خلال نشاط لغوي، وهذا ما تكرّس جلياً في مذكرّات صلّوخ التي تميّزت بلغة رشيقة وسلسة وفيها الكثير من الوضوح والمباشرة، مّا حال دون جعل قراءة هذا الكتاب الضخم مهمّة صعبة ومتعبة. كما أنّ غنى الكتاب بالصور الشخصية لفوزي صلّوخ التلميذ والشاب والمتخرّج وفي مختلف مراحل حياته ومع زوجته وأطفاله، إلى جانب صوره مع رؤساء البلاد والديبلوماسيين ورجال الدين والعلم والسياسة مثل السيّد موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين والدالاي لاما وياسر عرفات والملك ألبير الثاني ورئيس الحكومة الفيديرالية الجنرال ألوسيغون أوباسنجو وغيرها ساهمت في توثيق معلومات الكاتب وكذلك في جذب القارئ وشدّ انتباهه. عمد فوزي صلّوخ أيضاً إلى إثراء سيرته بالمعارف التاريخية والجغرافية والسياسية والثقافية، إذ لم يبخل على قارئه بأية معلومة موثّقة عن سياسة أو تاريخ البلد الذي عاش وعمل فيه وكأنّ مذكراته مكتوبة وفق بناء منطقي يتجّه نحو هدف محدّد يصب في مصلحة الطرفين المعنيين: الكاتب والقارئ معاً. فهو على سبيل المثال لا الحصر يشرح في بداية الفصل الرابع «سيراليون» وعلى امتداد أكثر من عشر صفحات طبيعة الحياة في هذه المنطقة الأفريقية وعن أصل شعبها وعاداتهم وتقاليدهم ودياناتهم ومعتقداتهم وصناعتهم وتجارتهم، كما يتطرّق إلى حال الجالية اللبنانية خلال الفترة التي قضاها هناك من العام 1964 إلى العام 1971: «تُعدّ سيراليون من البلدان الأفريقية الصغيرة إذ تبلع مساحتها 72,325 كيلومتراً مربعاً، ويبلع عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة. ورضخت للاستعمار مدّة قرن من الزمن، إلى أن حصلت على استقلالها عام 1961 وبقيت تحت التاج البريطاني حتى إعلان الجمهورية في العام 1971... تتميّز عاصمتها فريتون بمرفأ على المحيط الأطلسي من أكبر المرافئ العالمية. وقد اكتشف هذا المرفأ البرتغالي بدرو دب سنترا الذي اكتشف هذه البلاد ووضعها على الخريطة العالمية في القرن الخامس عشر... والشاطئ السيراليوني رملي طبيعي بديع آمن جذّاب للسياح، وقد ازدهرت الصناعة السياحية فيه في السبعينات. تمتاز سيراليون بكثافة الغابات، شجرها مختلف الأنواع والفصائل ومن أشهرها الشجرة المقاومة للنار شجرة النخيل، وهي شجرة ثمينة يستخرج من ثمرها الزيت...»(ص109). من هنا نجد أنّ «الأنا المنكفئة» هي نفسها «الأنا المتآلفة» والأنا الذاتية هي في الوقت عينه الأنا الاجتماعية والشاهدة على أحداث ومستجدّات الأزمنة والأمكنة التي تحيا فيها. ففي رصده حياته الشخصية وعمله الدبلوماسي، خرج صلّوخ من حياته الضيّقة إلى العالم الواسع ليُعبّر عن وضع المرأة اللبنانية آنذاك التي كان حضورها خجولاً في الجامعات والكليّات اللبنانية والعربية على رغم أنّها تُمثّل اليوم النسبة الأكبر والأبرز في جامعات اليوم، وعن واقع الطائفة الشيعية «المغبونة» التي كانت معزولة وحقوقها ضائعة وفقاً لما يُعرف «قسمة ضيزى». وكذلك بما يتعلّق بمجريات الحرب الأهلية في لبنان وتأثيرها على الجاليات اللبنانية في الخارج وغيرها... لا شكّ في أنّ العودة بالسنوات الأربع والستين إلى الوراء واسترجاع الماضي تفصيلياً وفق تسلسل زمني ومكاني ليسا بالمهمّة اليسيرة، بل إنّه عمل شاق وصفه فوزي صلّوخ في مقدّمة كتابه بالكابوسي لقوله: «كثيراً ما شعرت بالراحة والاطمئنان والاستقرار لدى الانتهاء من الكتابة ودفع المخطوطة إلى الطباعة، تخلّصت من عبء ثقيل وهم كبير كانا جاثمين عليّ كما يجثم الكابوس على رجل منهك متعب في ليل دامس يزيده خوفاً وذعراً وتعباً»، إلاّ أنّه لبّى بالتأكيد رغبة محمومة لدى فوزي صلّوخ الذي وقف عند فعل الكتابة هذه قائلاً: «كنت أشعر أنّ ما أكتبه جزء مني، نفحة فكر ونبضة قلب وحركة يد، وأنّ الإنسان بالسليقة حريص على ملكه ومحترز على موجوداته طفلاً كان أم شاباً يافعاً أم رجلاً بلغ من العمر عتياً. إنّها غريزة التملّك راسخة ثابتة في الأنفس».