نصوص الشرع صريحة متواترة في تحريم الغش والخديعة في شؤون الحياة كلها، وهي في شأن المعاملات المالية أكثرُ استفاضةً، ومع ذلك لا تزال أسواق المسلمين مرتعاً وبيلاً للمحتالين والغششة والمخادعين إلا من رحم ربك وقليل ما هم، والثقافة السائدة في هذا الجو الموبوء تطبِّع على رذيلة الكذب بل والجرأة على الله بترويج السلع بالحلف الكاذب... وقد كان للشريعة في تحريم الغش في المبايعات تشديدٌ لم تبلغه شِرعة من شرائع القانون الوضعية؛ إذ يعد الإسلام مجرد كتمان العيب في السلعة نوعاً من الغش والتدليس. فكل من كتم العيب فهو غاشٌ في بيعه؛ حتى ولو لم يقل: إن سلعتي بريئة من العيب، أو ادعى بأنه لم يظهرها بغير حقيقتها الظاهرة للعيان، وأن التقصير من جهة المشتري، فهو الذي فرَّط في تفقد السلعة ولم يتحقق من وجود العيب قبل أن يشتريها، فهو الذي غش نفسه إذ تعجل. فما عسى هذا أن يقول في حديث أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقَالَ: أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ ثُمَّ قَالَ: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إن هذا الرجل الذي أنكر عليه النبي فعله لم يروِّجْ سلعته بالتدليس الكاذب المتضمن لنفي البَلل، وإنما عرض سلعته ساكتاً عن هذا العيب، فلم يَنفه، ولم يُثبتْه، وجعل أمر كشف العيب للمشتري، ومع ذلك عده النبي غاشاً؛ إذ قال في الحديث نفسه: من غش فليس مني. فإذا كان هذا الرجل معدوداً من الغششة وهو لم يصرح بنفي العيب، فكيف بمن ينفق سلعته بالحلف الكاذب، حالفاً بالله ما بها من عيب، وأنها بسعرها فرصةٌ لا تعوض... إلى غير ذلك من صور الكذب والغش. من الحيل التي يسوغ بها بعضُهم الغش في التبايع أن يتحجج لذلك بأنه قد كان مخدوعاً في سلعته، اشتراها ولم يعلم بعيبها، ولسان حاله يقول: ما أنا إلا مظلوم مبخوس الحق، ولو أخبَرتُ بعيبها ما اشتراها مني أحد، ولَكَسدتْ عندي وذهب بذلك مالي... وإذا صح هذا، فليس سبيل الخلاص منها أن يُورِّط غيره بها، والحل المشروع الذي يفرضه الإسلام هو أن يرجع على من باعه ليستوفِ منه حقه، وحتى لا يتسلسل الغش وتتسع دائرتُه فتصبح أسواق المسلمين قائمة على قاعدة الغش والتدليس. والذي يُصدِّق النبي عليه الصلاة والسلام فيما يبلغه عن ربه، فليصدقه في وعده هذا «البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا، فَإنْ صدَقا وبَينا بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا، وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا» وليكن كل بائع وتاجر أكثر تصديقاً لوعد النبي منه لواقع السوق وحال التجار... وإن رآى غيره قد استغنى بالكذب والغش والخديعة والاحتكار فليعلم أن العبرة بالبركة في المال، وليس بوفرته، وما عسى كثرة المال أن تنفع صاحبها وقد محق الله بركتَها وجعلها ذاهبة في غير طائل من قمار وإسراف في محرمات ونفس محطمة تائهة قلقة ترتاد المصحات النفسية، وكلها توابع ناجمة من المكاسب الخبيثة... وأعظم بها من بركة ممحقة. فهل يقوى البائعون على الإخبار بعيوب سِلَعهم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟! ذاك محكٌّ للصدق وكمال التصديق لوعد النبي. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]