عن النجاح الإنكليزي يكاد الشعر، (ومعه النساء والأكثر مبيعاً)، يغيب عن «معمل النثر» الصادر عن دار وندوس. يتابع د. ج. تيلور التاريخ الأدبي في بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن، ويتساءل عن معنى الكتابة الأدبية، من يقرّر ما نقرأه، صمود الكتاب عبر الزمن، المقابل المادي للكتابة، وما إذا كانت «أمازون» ستقتل الأدب. المؤلف الذي تخصص في المحاسبة تحوّل مؤرخاً ثم كاتب سيرة وروائياً، وقلمه مورده الوحيد. يقول تيلور إن الحياة الأدبية تشكّل ثقافة كاملة يبنيها الإنتاج والاستهلاك، وتغيّرها امتيازات الطبقة أو احتياجاتها. تختلف الذائقة عبر الأجيال بفعل مواضيع الكتّاب وأساليبهم وتغيّر الكتابة نفسها كمهنة. في «تاريخ بندينيس» الصادرة في 1848 لثاكري يقول البطل لابن شقيقه إن الكتابة ليست مهنة الجنتلمان. وفي «نيو غراب ستريت» الصادرة في أواخر القرن التاسع عشر لغيسينغ، يُفضّل خريج جامعي جادّ على صحافي مخضرم لمنصب رئاسة التحرير. غراهام غرين ( 1904- 1991) راجع مقالات كُتّاب معروفين عن دراستهم، واتّضح أنهم جميعهم قصدوا مدارس خاصة باستثناء واحد فقط. من كُتّاب بين الحربين درس أكثر من دزينة في إيتون الشهيرة. يذكر تيلور الدور الهام ل»مكتبة الشعر» في بلومزبري في مطلع القرن العشرين التي أدارها هارولد مونرو، لكنه يتجاهل مساعدته وزوجته أليدا التي عملت أكثر منه. يغضّ النظر أيضاً عن الصداقات بين الكُتّاب والكاتبات (روبرت بروك وروز ماكولي، د. ه. لورنس وكاثرين مانسفيلد) والطرح النسوي الذي أدى إلى قيام دور نشر خاصة بالكاتبات وحدهن. وجدت دراسة في 2013 أن معدل دخل الكاتب المحترف يبلغ اليوم 11 ألف جنيه استرليني سنوياً. في عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته عاش نجوم الأدب برغد ولا سيما منهم أرنولد بينيت الذي بلغ أقصى دخله السنوي من الأدب والصحافة ما يعادل مليون جنيه استرليني الآن. لم تصمد شهرة الكُتّاب البارزين في تلك الحقبة، إذ نسخر اليوم من أرنولد وهيو وولبول وسومرست موم. أدرك موم أكثر من غيره كيف يتحول النجم الأدبي بسرعة ممسحة قدمين للجيل التالي. كتب في روايته «غاتو وجعة» عن التنافس بين هيو وولبول وتوماس هاردي، واختفاء التكريم فور وفاة الكاتب الناجح. ليست هناك معايير كلية لمعرفة أي الكاتبين أفضل، والمسألة تتعلق بالذوق وفق تيلور، لكن ذلك لا يمنع كثيرين من محاولة تطبيق مقاييس شاملة لاختيار «الأفضل»، وهذه كلمة نخبوية بحسب الروائية مورين دافي. إذا أعطينا مئة قارئ رواية «الحرب والسلم»، هل نعتبر حكمهم صحيحاً في حال اتفاق معظمهم على رأي واحد؟ رفض تيلور في الماضي القول إن الحكم يبقى ذاتياً، لكنه لم يعد أكيداً من ذلك، وإن كان التصريح به غير حكيم. يبني نقده على جمع الحقائق وترتيبها، ويُحرجه النقاد الذين يعبرون بقوة عما يحبونه ويكرهونه. يسخر مثلاً من جيمس وود، الناقد الإنكليزي في «ذا نيويوركر» وأستاذ النقد في جامعة هارفرد لقوله مثلاً: «يا لهذه الكتابة! يا لهذه المقدمة المدهشة!» انتقى تيلور أسوأ مثال عن الأحكام الذاتية، لكن الكتابة بشغف تجذب القراء في الواقع أكثر بكثير مما يفعل جمع الحقائق. لا قيمة لإحصاء الأشباح في المسرحيات، وفق الدكتور صامويل جونسن، أو ملاحظة اختلاف أحدها عن الآخر. على الكاتب أن يكشف الرعب في القلب البشري لدى رؤيتها. وحده إيفلين وو نجح في حياته وبقي محترماً بعد موته. بات نجماً اجتماعياً إثر نشره «أجساد خسيسة»، وكتب في يومياته أنه قصد مسرح سافوي بعد العشاء وقدّم نفسه مطالباً بحضور العرض مجاناً، فلبّوا طلبه. في 1947 دفعت له مجلة «غود هاوسكيبنغ» الأميركية أربعة آلاف جنيه استرليني عن مقال واحد. لم يستلم المبلغ كله نقداً إذ رغب في سيارة أرسلتها المجلة إلى عنوان في إرلندا حيث عاش هرباً من الضرائب. كسب وو في الخمسينات ما يعادل مئتي ألف جنيه استرليني اليوم، وتلقّى شقيقه الأكبر أضخم مبلغ تدفعه هوليوود لروائي. ذهب ألِك إلى الحرب بعد النجاح الباهر لباكورته «ظهور الشباب» التي نشرها في السابعة عشرة في 1917. حين عاد صمد عاماً ونصف العام على أجر قصة باعها لمطبوعة أميركية. جمع يائساً حبوباً منومة لينتحر، لكن هوليوود أنقذته بشرائها حقوق تحويل «جزيرة في الشمس» فيلماً بنصف مليون دولار قبل صدور الرواية في 1956. النجاح الأميركي يغيّر الحياة، لكن النجاح الإنكليزي يسمح فقط بشراء خزانة للملفات وفق مارتن آميس. والده كنزلي غيّر وكيله الأدبي في السبعينات، وجمع مبلغاً محترماً، لكنه أنفق أكثر من ألف جنيه على الشرب في شهر واحد. يستفيد الكُتّاب البارزون من شهرتهم لتعزيز دخلهم من الإعلام والتعليم. إيان ماكيوان ومارتن آميس كتبا قصتين للمجلتين الجنسيتين، «كلوب إنترناشينال» و»بنتهاوس». دفع العوز جوليان ماكلارن- روس إلى دق الأبواب لبيع المكانس الكهربائية، ورالف ستراوس إلى تغطية مباريات الملاكمة. فرجينيا وولف كسبت أقل من خمسة آلاف جنيه بحساب اليوم من الكتابة الصحافية في 1917. في السبعينات تلقى ج. ج. فاريل عشرة جنيهات فقط عن كل مراجعة يكتبها لمجلة «ذا سبكتاتِر». عجز عن دفع قرض الإسكان حتى حين نال جائزة بوكر ومبلغ عشرة آلاف جنيه عن «حصار كريشنابور» في 1973. استرجع في خطابه فترة عيشه في دفيئة إيجارها جنيه واحد أسبوعياً، فانتقد البعض كلامه غير الرجولي. انتقل إلى إرلندا حيث تقلّ أسعار المساكن عنها في إنكلترا، ومات غرقاً حين جرفه البحر وهو يصطاد. كتاب ناجحون مثل سيريل كونلي، أنغس ولسن وجون برين توفوا معوزين وتركوا ديوناً. سايمن ريفن أمضى آخر أيامه في مأوى أعطى الأفضلية للجنود المشوهين والعاجزين. صنعت الصحافة المتوسعة بين الحربين نجوماً أدبيين صغاراً تصارعوا منذ منتصف الخمسينات على صفحات الجرائد اليمينية مثل «صانداي تايمز» واليسارية مثل «أوبزرفر». ازداد المحررون والمراجعون الأدبيون أهمية مع تكريس مساحة أكبر للمراجعات الصقيلة، الجادة، غير العاطفية، الفاضحة للزيف. لكن الهوة بين الكُتّاب والنقاد من جهة والقراء من جهة أخرى اتسعت منذ تلك الفترة. كان شيفا نيبول يقرأ من أعماله في مدرسة في الريف الإنكليزي، وكل ما استطاع مراهق سؤاله كان: «هل تعيش في كوخ من الطين؟» هبطت الكتابة الأدبية في السبعينات ثم ازدهرت بقوة في الثمانينات بفضل الترويج البارع لمجموعة من الروائيين البريطانيين الشباب. ازدادت أهمية الأسماء الكبيرة أكثر من أي وقت مضى، واعتمد النجاح على أشكال عدة من الدعاية بصرف النظر عن مستوى الكاتب. استُخدمت القواعد التي تصنع المشاهير لإدارة عمله، وفاقت الجوائز الأدبية أهمية المراجعات لتؤكد تحكّم السوق بجوانب عدة من الحياة بينها الأدب. لا تتعلّق الجوائز ببيع الكتب بشكل عام، لأنها سباق مصطنع فيه رابح واحد تتركز عليه التغطية الإعلامية ليزيد أرباح تجار الكتب. بعد اتساع مطّرد للمساحة النقدية في الصحف الكبيرة والدوريات في منتصف الثمانينات، تقلّص عدد صفحاتها بشكل كبير حديثاً، واتُهّم مراجعون بخنق النقد الجدي بخطبهم الغاضبة الحافلة بالأخطاء الإملائية. لكن المشهد الأدبي اليوم أكثر تنوعاً عرقياً وأوسع مدى وعلاقات عالمياً مما كان عليه منذ نصف قرن. تسهل الكتابة اليوم، لكن العيش منها أصعب مما كان سابقاً. النفوذ الذي مارسه بضع لندنيين من الطبقة المتوسطة قضت أمازون عليه حين جعلت أي قارئ ناقداً حتى لو لم يستطع التمييز بين الرواية والسيرة، ودفعت مهنة النقد إلى الهامش. لكن أمازون، بشبه احتكارها بيع الكتب، تقوم في الوقت نفسه بمهمة لا تختلف عن عمل المكتبات الجوالة في أواخر القرن التاسع عشر. هل نشهد اليوم نهاية عصر غوتنبرغ، مخترع آلة الطباعة؟ هل باتت الكتب كالغراموفون، أثراً من عهد تكنولوجي بائد؟ هناك تغييران كبيران يتعززان اليوم. زيادة شهادات الماجستير في الكتابة الإبداعية في الجامعات البريطانية، وتوظيف الروائيين والشعراء لتعليمها. كون تيلور استطاع نشر كتاب جاد من 450 صفحة، وتخصيص الصحف آلاف الكلمات له دعوة واضحة إلى التفاؤل.