صعد أحمد (44 سنة) إلى بيته في الطابق الثامن، بعد ساعة من البحث عن مكان لركن سيارته، وقال لزوجته «عيشة تقصف العمر»، ولكنه لم يتخيل أن تتحول عبارته إلى واقع أليم. ففي الليلة ذاتها، أصيب بذبحة صدرية، ولولا العناية الإلهية لانتقل اسمه من قائمة أعضاء مجلس الإدارة لإحدى الشركات إلى صفحة الوفيات في صحيفة. كانت هذه الواقعة كفيلة لأن يقرر وزوجته الانتقال من شقة في مدينة نصر المتخمة بسكانها وسياراتها ومشكلاتها التي لا تنتهي... إلى فيلا صغيرة على طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي. ولكن المثير أن هذه النقلة لم تكن نقلة جغرافية فقط، بل أيضاً نوعية. فقد اتخذ أحمد قراراً شجاعاً، شجعته عليه زوجته، بأن يستقيل من عمله الذي كان يبتلع ساعات النهار وقسطاً من ساعات الليل، ويتفرغ... للزراعة! بدت الفكرة غريبة في البداية، ولكن خلال العامين الماضيين، تحولت الغرابة إبداعاً وإنجازاً، والأهم إلى صحة أفضل وفهم أعمق للحياة. ذلك أن الفيلا الصغيرة التي انتقلا إليها لم تكن إلا بيتاً ريفياً ضمن منتجع زراعي، أي أن السكان يشترون الفيلا المحيطة بأرض مستصلحة ومزروعة بأشجار الزيتون والفواكه وبعض الخضراوات. ويقول أحمد: «المقايضة نجحت. تركت الوظيفة المرموقة التي تدر أموالاً طائلة وتجلب أمراض الضغط والسكري، وشقة فاخرة في حي تحولت شوارعه كراجاً ثابتاً، في مقابل بيت صغير محاط بأرض زراعية أعمل فيها فلاحاً بمساعدة زوجتي وآخرين، من دون أن أضطر إلى خوض مضمار الصراع الحضري في شوراع القاهرة الكبرى التي كادت تقصف عمري». أحمد هو واحد من بين ثلاثة بلايين شخص حول العالم معرضون لقصف العمر المبكر لمجرد أنهم سكان مدن. وهي العيشة أو الحياة التي تنبهت إلى خطورتها «منظمة الصحة العالمية» هذا العام، فقررت أن ترفع شعار «لصحة المدن ألف وزن». صحيح أن هؤلاء يعانون مشكلات متفاوتة الحدّة، إلا أنهم معرضون للخطورة ذاتها. فسرعة إيقاع الحياة وازدحام الشوراع وضغوط العمل واحتدام المنافسة وغيرها من مشكلات تهدد سكان المدن المنتمين إلى وسط الهرم الاجتماعي صعوداً إلى قمته، يمكن أن تكون عوامل خطورة مشتركة لثلث البلايين الثلاثة. فهناك نحو 50 في المئة من سكان المدن، أو على وجه الدقة سكان عشوائيات المدن، يعانون نقص مياه الشرب، والصرف الصحي، والرعاية الصحية اللازمة وغيرها من المشكلات التي تعرضهم للخطر الذي يصل إلى حد الوفاة. على مرمى حجر من شقة أحمد في حي مدينة نصر، توجد منطقة عشوائية اسمها «الكيلو أربعة ونصف»، يعيش فيها بضعة آلاف من المصريين النازحين من قرى مصر المختلفة في جنوبها وشمالها. ومعظمهم فلاحون هجروا الزراعة ونزحوا إلى القاهرة، لهثاً وراء حلم المدنية التي تقي أيديهم طين الزراعة، وتدفئ جيوبهم بأموال الأعمال الحضرية. وعلى رغم أن أيديهم لم تعد تتسخ بطين الزراعة، تراها تئن تحت وطأة أعمال أخرى أكثر ضراوة، مثل أعمال البناء الشاقة التي لا تدفئ الجيوب، بل ترفع سقف التوقعات من دون أن يتواكب ذلك مع تحقيق مرضٍ للأماني. منظمة الصحة العالمية في إطار دعوتها هذا العام إلى تحسين نوعية الحياة في المدن حذرت من النمو الحضري من دون تخطيط الذي يعرض السكان لمخاطر متزايدة. فضعف الرعاية الصحية، وسوء البنية الأساسية، ونقص مياه الشرب وارتفاع معدلات التعرض للكوارث، ومن ثم زيادة خطر الإصابة بالأمراض والوفاة. صفاء التي اصطحبها أحمد وزوجته في نزوحهما العكسي من القاهرة إلى مجتمع زراعي جديد هي أرملة بواب (حارس) العمارة التي كانا يقطنان فيها. جاءت وزوجها الراحل إلى القاهرة قادمين من قريتهما في سوهاج في صعيد مصر بحثاً عن حياة أفضل وأقاما لدى أقارب لهما في «الكيلو أربعة ونصف». وجد عملاً في محطة وقود قتله بعد 15 عاماً. وعلى رغم أن صفاء أسعد حالاً في عملها، كعاملة نظافة وزراعة لدى أحمد وزوجته، تفكر جدياً في العودة إلى بلدتها. وتقول: «حياة المدينة لم تعطنا سوى المرض والضغوط وفقدان الزوج. ليتنا بقينا في قريتنا». يبقى النزوح إلى المدينة حلم سكان القرى، والهجرة الى الريف ترف الأغنياء!