يبدو التهديد الباليستي مؤاتياً للمهاجم، ومرجحاً لكفته على الصعيد الإعلامي والصعيدين التقني والنفسي، حتى يبدو الجواب للوهلة الأولى من غير جدوى. وعلى خلاف التوقع، يبدو الاستغلال الإعلامي في مصلحة المعتدي. فمحطات التلفزة في العالم كله بثت إطلاق الصواريخ الإيرانية قدر –1 وسجيل في ايلول (سبتمبر) 2009. ولم يحتج الإيرانيون الى تسويغ وقع الإطلاق وصوره إلى الإعلان عن مخزون من هذه الصواريخ يضمن فاعليتها في حرب فعلية. وعلى رغم هذا، اضطلع الإعلان عن الصواريخ الباليستية بدور في المفاوضة النووية، وعلى خلاف الحال هذه، يقوم التجهيز الدفاعي (ضد الصواريخ) على وسائل ثابتة لا تبعث صورها في الإعلام على الطمأنينة والشعور بالقوة والحصانة. وفي 1991، لم يُفهم من بث صور بطاريات «باتريوت» في اثناء الاستعمال إلا دوام نظام صدام ومقاومته الحملة الدولية على احتلال الكويت. وخدمت الصور الدفاعية إرادة النظام العراقي في إظهار ضعف التحالف الدولي. والوضع الدفاعي حَرِج مادياً كذلك، فأجهزة إطلاق الصواريخ وانخراطها في حركة النقل المدني تعقد التدمير الاستباقي وتجعله مستحيلاً. ووصول الصاروخ الباليستي من طريق الفضاء، واقترابه السريع والخفي من هدفه، يحولان دون رد سريع في الوقت الضيق المتاح. واعتراض طيران قذيفة تهوي في سرعة خاطفة قريب من اعتراض رصاصة برصاصة. ولا شك في ان إنشاء قبة دفاعية على مدى بلد يكاد يكون مستحيلاً ويقتضي جهداً مالياً هائلاً. ويؤدي انعدام الإنذار والافتقار الى المبادرة، ودوام الخطر، الى حرب أعصاب مرهقة. والحق ان الرأي العام في البلدان المهددة هدف بارز من اهداف هذه الحرب. والذعر الذي تثيره الهجمات بالصواريخ الباليستية قد يضاعف الخسائر. والضحايا الأوائل بعد الحادثة النووية في لونغ آيلند، في 1979، سقطوا في حوادث سير. والقواعد العسكرية العاملة، عموماً، وهي امتداد بعيد لمنازعات مركزية، تتهددها الصواريخ على النحو نفسه. وفي أفغانستان ولبنان، تقع قواعد (قوات الأطلسي أو قوات «اليونيفيل») على بعد مئات الكيلومترات من بلدان كثيرة تملك صواريخ باليستية. ولا ريب في ان الهيئات السياسية التي تمثل بلدها في ميدان مهدد، والقوات المشاركة والمرابطة في الميدان العدائي، لا تطيق إلحاح هاجس «دراكار» (قيادة اركان القوة الفرنسية التي شاركت في حماية الانسحاب الفلسطيني من لبنان وهاجمتها عملية انتحارية في خريف 1983 قتلت 54 جندياً فرنسياً الى نحو 250 اميركياً في الموقع الأميركي)، إذا تبلور التهديد، وقد تبدو العلاقة بين كلفة جهاز دفاعي وبين مردوده ضعيفة الجدوى، وتدعو الى الإقلاع عن إنشاء مثل هذا الجهاز. ولكن عدد صواريخ «سكود» الذي أطلق منذ نحو 40 عاماً، وبلغ 3 آلاف صاروخ، يدعو الى تجديد النظر في المسألة، وتخطي تقدير ضعف الجدوى، وقيمة الصواريخ الباليستية المضافة تسوغ تجاوز استعمالها إطار المنازعات الإقليمية، وتعظم الاهتمام بها وبطور استعمالها الجديد. فامتلاكها يتيح الإقدام على اشتباك مع أي قوة أخرى وقبول مباشرته. وابتكرت التقنية طرائق القصف الجوي من فوق ومن علٍ. ولا يحصن العدو من الطرائق هذه امتلاكه طيراناً عسكرياً قوياً. ولكن القصف الكثيف الذي أصلته طائرات V-2 الألمانية، في 1944 و1945، مدينتي لندن وأنفرس، قرينة على ضعف فاعلية حرب من بعيد. وينبغي، في هذه الحال، ان يتمتع الضربة المحتملة بمفاعيل تفوق مفعول الانفجار، وتضعف صحة الخصم وتماسكه المعنوي. فثمة مدن محاصرة انهارت حين تفشى فيها الطاعون. وعليه، فتحميل الصاروخ رؤوساً جرثومية أو كيميائية أو نووية يمنحه طاقة إرهاب تعظم مفعول قدرته على الالتفاف. وواتت الحرب الباردة، ثم سقوط الاتحاد السوفياتي، انتشار هذه الأسلحة التي تتسلح بنماذج متفرقة منها معظم البلدان القائمة بين ليبيا وكوريا الشمالية. والخريطة هذه تجعل القواعد العسكرية الفرنسية بأبو ظبي وجيبوتي في مطال القصف الباليستي. وهي كذلك حال بلدان جنوب أوروبا الشرقي. وتربط معاهدة لشبونة فرنسا (ودول غرب أوروبا الأخرى) بهذه البلدان في أحوال صدور القصف عن دول بموجب مادة الدعم المتبادل، أو عن هجمات إرهابية، بموجب مادة التضامن في وجه الإرهاب. والنزاع غير المتكافئ لا يقتصر على بنادق كالاشينكوف أو على عبوات متفجرة، على شاكلة قصف «حزب الله» قطعة بحرية إسرائيلية بصاروخ مضاد للسفن في تموز (يوليو) 2006، فانتشار هذا النوع من الأسلحة محتمل ومرجح. والكشف عن مدرعات في حمولة السفينة الأوكرانية «فاينا»، على أثر قرصنتها في ايلول 2008، وتيه المركب «اركتيكاسي» في آب (اغسطس) 2009، شاهدان على ان التجارة البحرية لا تقتصر على النفط والشاشات الملساء. وتقع باريس ولندن على أقل من 250 كلم من سكك إبحار تعبرها 100 ألف سفينة في العام الواحد. والتحسينات التقنية المحتملة تبعث على تعاظم العناية بهذا السلاح، وتوسع دائرة البلدان المهددة، وينصب الجهد على مدى الصواريخ. ولا ريب في ان المدى بلغ 3 آلاف كلم وتخطاها. ولعل نقله، وتعذر التستر عليه، يقيدان استعماله في يسر. فصاروخ شهاب-3 الإيراني يبلغ طوله 16 متراً. فهو وحده عملية نقل استثنائية صغيرة. ولا تؤدي زيادة المدى الى خسارة كبيرة في دقة الإصابة. وتترجح دقة التصويب بين 50 متراً و900 متر. النماذج المتطورة تسعى في تعظيم قوة الاختراق وعواملها، من خداع وخفاء وانفصال الى اجزاء حين دخول الطبقة الجوية الملائمة. فلا يسع بلداً ناشطاً على الساحة الدولية التخلي عن مجابهة الخطر الداهم هذا ومعالجته. وجواب الدول الأوروبية، في ظرف مالي حرج، يتكيف ويتدرج على ركن أحلاف أولها منظمة معاهدة شمال الأطلسي («الناتو» أو «الأطلسي»). ويتولى الاستخبار وعمليات تقييد الانتشار مراحل العلاج الابتدائية، بجوار المنبع، فرصد مواقع الأسلحة هذه، وإحصاؤها، وتقويم قدراتها، مقدمات لا غنى عنها. ويطاول الاستخبار أول ما يطاول امتلاك كيان ليس بكيان دولة مثل هذا السلاح. واضطرار أصحاب السلاح الى تجريبه واختباره ينبه أجهزة الإنذار المبكر ومنها الرادارات البعيدة المدى والأقمار الاصطناعية، الى أثر السلاح، ويقود الى مصادره ومواضعه على نحو قاطع. ويضطلع التشخيص من طريق الأقمار الاصطناعية بدور حاسم في إرساء صدقية الردع النووي، ركن الأمن الأوروبي والأطلسي الأول والرد على البلد المبادر الى الاعتداء. وحصر موضع تنزلة جماعة إرهابية، وتطلق منها صواريخها، يتيح رداً دقيقاً إما بواسطة قوات خاصة أو بواسطة قصف بعيد (صواريخ بحرية). ولا ينجم عن تقليص مخزون الصواريخ، وتعيين مصادر القصف، محو الأثر السياسي الذي يتمتع به هذا السلاح. وينبغي حمل المهاجم بالصواريخ على الشعور بالخوف والقلق، واستبدادهما به هو وليس بالمهاجَم، جراء حماية مسرح العمليات والمناطق الحرجة. ويمزج هذا النهج رصد الرادار والتدمير بواسطة الصواريخ أو اللايزر. ويتوقع ان يؤول التجهيز الأوروبي بصاروخ «آستر 30» الى تقليص دائرة التهديد بواسطة التدمير المباشر. وتدعو الشبهة في شأن الهدف الذي يسعى الصاروخ الباليستي البعيد المدى في بلوغه، واجتيازه عدداً من البلدان والمناطق (من بحر وجزر وقارات)، يدعو الأمران الى تصدي عدد من الأمم، متحالفة، الى رد منظم ومنسق يدمج الاحتمالات كلها، بحراً وبراً وجواً. وتعمل الولاياتالمتحدة واليابان وروسيا وإسرائيل وسبعة بلدان أوروبية (ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا واليونان وإيطاليا وهولندا) على تجهيز قواتها بسلاح مضاد مناسب. وقد تنسق هذه البلدان جهودها... ويتولى «الأطلسي» التنسيق منذ اليوم في إطار «نظام دفاع مسرح العمليات على نحو طبقات فاعلة». وهو يرمي الى شبك الوسائل المتفرقة والمتوفرة بعضها بالآخر. يسوغ ثمن التهديد الزهيد المبادرة الى تجهيز ردع تقني مجز وفاعل على رغم دائرته المتواضعة. ولا يعدم التجهيز هذا جدواه في مفاوضة آتية على حظر صواريخ أرض – أرض لا مناص منها. * نقيب بحري ومتخرج دورة تدريب «ماريشال ليوتاي» في معهد الدفاع العسكري المشترك، عن «ديفانس وسيكوريتيه انترناسيونال» الفرنسية، نيسان (ابريل) 2010، إعداد وضاح شرارة.