في دراسة مهمة قدمها أخيراً مركز حقوق المرأة المصري بعنوان «غيوم في سماء مصر»، ظهرت حقائق مثيرة للتأمل كثيراً ما تداولها الناس بمبالغة أحياناً وبشك في أحيان أخرى. الدراسة المعنية بتقويم تعرض النساء في مصر للتحرش الجنسي تبدو على رغم عينتها المصرية قابلة للنقل والقراءة في مجتمعاتنا القريبة نسبياً في عاداتها الاجتماعية من المجتمع المصري، وتهدف الدراسة كما أوضح واضعوها إلى وصف ظاهرة التحرش الجنسي في المجتمع المصري وتحليل أسبابها والدوافع التي تزيد من حدوثها في مصر، وتم اختيار عينات البحث من القاهرة وضواحيها من الرجال والنساء، وأوضحت الدراسة أن هناك سبعة مظاهر للتحرش الجنسي تشمل اللمس والتحديق في جسم المرأة واستخدام ألفاظ جنسية ومطاردة النساء والمضايقة بالاتصالات الهاتفية وكشف أجزاء من الجسد في حضور النساء. وكانت ثلث عينة النساء المصريات على وعي بمظاهر التحرش من الواقع اليومي الذي يتعرضن له في الوقت الذي كانت غالبية النساء الأجنبيات على وعي بسبب تعرضهن الفعلي للتحرش، واتفقت أكثر من نصف النساء في العينة على أن النساء من كل الأعمار هن عرضة للتحرش الجنسي، بينما أوضح معظم الرجال أن الفئة العمرية من النساء ما بين 19 و 25 هن الأكثر تعرضاً للتحرش، وكان الشكل العام للمرأة عاملاً مهماً في تحديد هوية السيدات المتعرضات للتحرش بحسب رأي معظم النساء والرجال المصريين وليس النساء الأجنبيات، واللاتي لم يرين فرقاً في تعرض النساء للتحرش بسبب مظهرهن، وأقر عدد كبير من المشاركين بأن النساء المنقبات يتعرضن للتحرش أيضاً، ولم يكن هناك فرق في الطبقة الاجتماعية للمتعرضات للتحرش كما أوضح المشاركون، وكانت النساء العاملات والأقل عمراً هن الأكثر تعرضاً للتحرش. واستوضحت الدراسة أيضاً آراء المشاركين في طبيعة المتحرشين من الرجال، وكانوا كما بينت الآراء من الفئة العمرية الأصغر ما بين 19 و 24، وأوضحت الأجنبيات أن سائقي المواصلات العامة هم الأكثر إساءة للنساء ويليهم عناصر الشرطة والأمن، وأظهرت الدراسة تعرض نسبة عالية للغاية تصل إلى 80 في المئة من النساء لتحرش مباشر وأكثر من نصف العينة إلى تحرش يومي في المواصلات العامة بشكل أساسي، ولاحظت الدراسة أن غالبية المشاركات قد أوضحن احتمال تعرض النساء السافرات أكثر من غيرهن للتحرش على رغم أن معظم المشاركات كن يرتدين الحجاب ويتعرضن للتحرش على رغم ذلك، وعانت الكثير من المشاركات من آثار التحرش كآلام جسدية وانخفاض للإنتاجية في أماكن العمل وفقدان الثقة في الذات. وأوضحت الدراسة أن غالبية النساء يواجهن مظاهر التحرش بصمت ولا يدافعن عن أنفسهن خشية على سمعتهن، وكذلك لم تبادر النساء المشاركات بمساعدة ضحايا التحرش في الأماكن العامة خوفاً من عواقب التدخل في شؤون الغير، أما النسبة الأقل من النساء ممن لجأن إلى السلطات لمساعدتهن فقد واجهن السخرية من عناصر الأمن والشرطة استخفافاً بشكواهن. وأوضح ثلثا الرجال ممن شملتهن الدراسة أنهم شاركوا في التحرش بصورة أو بأخرى، في الأماكن العامة والمواصلات ونقاط البيع والمؤسسات التعليمية والشواطئ وأخيراً في أماكن العمل بنسبة أقل، وأوضح المتحرشون أنهم يمارسون التحرش بشكل شبه يومي أو يومي، وبشكل عشوائي لا يفرق بين امرأة بعينها أو أخرى وفقط استجابة لوازع جنسي، وأفاد الرجال بأن التحرش يجعلهم يشعرون بذكورتهم وبالثقة في قوتهم وتفوقهم على المرأة، وأظهرت نسبة من الرجال أنهم يتحرشون بحكم العادة منذ صغرهم، وأوضح أكثر من نصف الرجال أن اللوم في تحرش الرجال بالنساء يقع على النساء أنفسهن ومظهرهن في تعارض مع نتائج الدراسة التي تظهر نسبة كبرى من المحجبات المتعرضات للتحرش. وبعيداً عن الأسباب المعتادة كالظروف الاقتصادية المتردية ومظهر المرأة والطبقة الاجتماعية والصبغة الدينية للمجتمعات العربية – والتي أظهر التقرير عدم صحتها- تظهر مشكلة التحرش كملمح اجتماعي لثقافة محلية، وبسبب عملي سابقاً في قطاع صحي مختلط فإنني كثيراً ما تساءلت عن أسباب التحرش، وكان غير ملحوظ أبداً في مكان عملي حيث نتعامل مع أشخاص معروفين لنا بشكل يومي، بينما كان أكثر ما يكون في الأماكن العامة ونقاط البيع في موافقة لما ورد في التقرير، وكأن المتحرشين يتحصنون خلف عدم المعرفة بهويتهم، فليس تواجد المرأة إذن ولو بشكل يومي حول الرجل هو المشكلة بحد ذاته، بل هي الثقافة العامة في التهوين من مشكلة التحرش واعتبارها سلوكاً جذاباً ينم عن خفة دم أو حتى مطلوباً من الرجال أمام النساء. التوصيات التي حملتها الدراسة تستحق التدبر في واقع مجتمعاتنا، فالدراسة توصي بتوضيح مفهوم التحرش لعموم الناس وأنه لا يقتصر على الأفعال الخارجة فقط بل يشمل الإساءة اللفظية أو التحديق في المرأة، ورفع درجة تعامل رجال الأمن مع شكاوى التحرش، وتأمين الشوارع ووسائل المواصلات العامة، وكان أهم ما جاء في التوصيات هو رد الاعتبار للنساء وتعريف العامة بأن المرأة هي ضحية للتحرش وليست مسبباً له بأي شكل، والتعامل مع القوانين التي لا تميز بصورة واضحة بين مفاهيم التحرش وعقوباتها وعلى الأخص بين المتحصنين بسلطة القانون بحكم عملهم في الأمن والشرطة، وإن كانت نتائج الدراسة تؤكد انتشار التحرش في مصر وهي أكثر المجتمعات العربية تديناً بحسب دراسة سابقة، فليس الدين إذن هو المعيار الوحيد لسلامة وأمن النساء، فمن المثير مثلاً للتفكير معرفة هل جعلت عقود الفصل التام بين الجنسين هنا مظاهر التحرش أقل؟ * كاتبة سعودية - الولاياتالمتحدة. [email protected]