تثبت التجربة أن الحلول السهلة للمشكلات المعقدة، دائماً مغرية لبسطاء الناس كما أنها مغرية للانتهازيين الأذكياء أيضاً. فإذا أصيب إنسان بمرض استعصى علاجه، تكاثرت الاقتراحات من حسني النيات بأخذ أعشاب ومحاليل، لم تخضع لا فاعليتها ولا حتى نظافتها لأي تحليل علمي مجرد. والأسوأ حينما يأتي الدجالون المحترفون ويستغلون معاناة المرضى وذويهم. وبعد أن أعلنت إسرائيل عن «استقلالها» في جزء من فلسطين، أتى الطامعون بالسلطة، بالانقلابات، باسم تحرير فلسطين. وبدلاً من تحرير جزء من فلسطين فقدنا كل فلسطين. غير أن ما فعله الانقلابيون تجاوز الفشل في تحرير فلسطين إلى الاستبداد والقمع وتدمير عملات أقطار كانت "صعبة" ذات قيمة شرائية عالية، وحولوها عن طريق تدميرهم لاقتصاد أوطانهم إلى عملات رخوة متدنية القيمة. وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب الكونية الأولى، فرض المنتصرون عليها دفع مبالغ باهظة، يتعذر دفعها خلال سنوات قليلة كما جاء نصاً في بروتوكولات إنهاء الحرب. فلما واجهت تلك الحكومة، والتي تولت السلطة عن طريق انتخابات ديموقراطية نزيهة، عجز موازناتها الهائل، نفذت حلاً أغرتها بساطته بتنفيذه. وملخصه طبع بلايين الماركات. نعم حرفياً طبع، دون أي غطاء - أو مقابل - من عملات صعبة أخرى أو ذهب وفضة. والمحصلة الاقتصادية من طبع كميات هائلة من بلايين الماركات، تصاعد نسبة التضخم لدرجة أن الباعة يرفعون أسعار ما كانوا يبيعون، كل ساعتين يومياً. وكان عامة الناس يذهبون بسلات ممتلئة بالماركات لشراء الضروريات ولا يستطيعون ملء نصفها من أرخص الأطعمة أو غير الأطعمة. وبعد أن استمر ارتفاع الأسعار وتدني القيمة الشرائية للمارك الألماني، أتى انتهازيون بالحل باسم الدفاع عن الوطن ورفع شأنه وبناء اقتصاده. وصدقهم المحبطون واليائسون، بمن فيهم من كانوا بالأمس من الماركسيين والشيوعيين، ونسبة كبيرة من ذوي الدخول المحدودة، ففاز النازيون بانتخابات ديموقراطية نزيهة. ثم قضى النازيون، كما يفعل دوماً أمثالهم من المتطرفين، على خصومهم السياسيين بالاغتيالات والقتل والترويع، فاغتالوا الديموقراطية التي أتوا إلى الحكم عن طريقها قبل أن تؤدي عدوانيتهم إلى تدمير ألمانيا كلها. والحل "البسيط" الذي جيء به لمواجهة دفع عقوبات مالية ضخمة، أدى إلى تسامي ارتفاع الأسعار وفقد العملة لقيمتها وبالتالي زيادة عدد الفقراء والمحرومين وتكاثر عدد من كانوا يومياً يموتون جوعاً. وهذه الكارثة الألمانية أتت بالنازيين الفاشيين القتلة، الذين جلبوا لألمانيا مصائب شتى ليس أقلها تولي تلاميذ ستالين لحكم الجزء الشرقي منها وتقسيم عاصمتها. وحين واجه العالم أجمع كارثة الكساد الاقتصادي الذي بدأ في أميركا في تشرين الاول (أكتوبر) 1929، ثم شمل بقية المعمورة، كاد الشيوعيون، الذين وعدوا بتحقيق جنة الله على أرضه، أن يتمكنوا من تولي الحكم في دول أوروبية ديموقراطية، كما انتشر تأسيس الأحزاب الشيوعية في الدول النامية. غير أن مطامع النازيين التوسعية ورغبتهم في "تطهير" سكان كوكب الأرض من الأعراق التي لا تنتمي إلى الأثنية الآرية، كالسلاف والعرب واليهود والجنس الآسيوي المغولي والأفارقة، أدتا إلى الحرب الكونية الثانية. وضرورة الإنفاق لتمويل الحرب وما صاحب ذلك التمويل من ارتفاع لمستويات السيولة في أميركا وبريطانيا خصوصاً، انهى الكساد وأدى إلى نمو اقتصادي متتابع لمدة تجاوزت بضع عشرة سنة. والأزمة الاقتصادية الحالية، التي تعاني منها بدرجات متفاوتة كل دول العالم، نفضت الغبار عن كتب الشيوعيين وكتب الصحويين من مسيحيين ويهود ومسلمين وهندوس. والسبب واضح، لأن ما يوحد الشيوعيين والصحويين من كل الفئات بما في ذلك السيخ والهندوس، هو رفع شعارات زاهية وواعدة بالخيرات، لحل مشكلات معقدة ليس من السهل حلها. إن الكارثة المالية التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية الشاملة لم تحدث بسبب نظام الأسواق، وإنما حدثت بسبب الغش والتدليس الذي مارسته المنشآت المالية كبيرها وصغيرها، حينما غاب عن "الإبل" رعاتها، أي السلطات الحكومية المفوضة بالتدخل لحماية الاقتصاد الوطني الأميركي. لقد وصل الخداع والتدليس إلى درجة أن من يوافقون على منح القروض يزورون دخول المقترضين أو يدفعونهم إلى تضخيمها، بدلاً من التأكد من قدرتهم على الدفع بالاستقصاء والبحث الجاد. والسبب أن الموظف أو حتى رئيس المنشأة المالية المانحة للقرض يأخذ مكافأة في وقت منح أو شراء صك قرض. ولا يهمه إن كان المقترض سيفي بما التزم بالوفاء به. إن من أهم أركان النظام الذي رسم آدم سميث أهم معالمه، الثقة والصدق والحماية القانونية من الغش. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي