قبل نحو 25 عاماً اتجهت صوب مبنى النادي الأدبي في الرياض الواقع على شارع الأحساء حينئذٍ، وصعدت إلى مكتب رئيسه في ذلك الوقت الشيخ عبدالله بن إدريس معبراً عن رغبتي في إلقاء محاضرة. طلب مني الشيخ عبدالله ملخصاً ووعدني بالرد ولم يطل الوقت قبل أن ألقي محاضرتي وسط حضورٍ عدَّه البعض لافتاً ووصفه الأستاذ عبدالله نور - رحمه الله - ونحن نسير في اتجاه القاعة، بأنه أشبه بالزفاف، وأظنه كان يعبر عن سعادته بانضمامي إلى حركة الحداثة الأدبية التي كانت في أوجها حينئذٍ، والتي كان نور وغيره من الكتاب يقودونها ويرحبون بكل من ينضم إليها أو يمد يد العون لدعمها، ولا سيما حين يجيء الدعم من باحث شاب يعتمر هيبة الأكاديمية فيؤكد أن الحداثة عمقت حضورها في الجامعة. بعد تلك المحاضرة انعقدت لقاءات حضرها عدد من شباب الحداثة آنذاك، من شعراء وقاصين ونقاد ومثقفين آخرين، كانوا يسعون إلى تعميق العلاقة بينهم وبين النادي الأدبي الذي عرف حينئذٍ بمحافظته وحذره تجاه الحداثة الأدبية أو التجديد بشكل عام. غير أن تلك اللقاءات لم تستمر فانشغلت مع من انشغل من الكتاب عندئذٍ بندوات وأمسيات ومحاضرات في أماكن مختلفة من المملكة تعريفاً بالأدب الجديد وتكريساً لحضوره في المشهد الثقافي. واستمر ذلك حتى انتقل النادي إلى مبناه الحالي، فحصل اتفاق بين عدد من المهتمين بالشأن الثقافي كان من بينهم عدد من الأكاديميين وطلاب الجامعات على لقاء دوري في النادي، لقاء حواري يمكن عبره طرح قضايا مختلفة والاستماع إلى نصوص أدبية يجري النقاش حولها. فتأسس من ذلك ما اتفقنا على تسميته «الإثنينية» التي استمرت سنوات عدة شرفت بإدارتها فترة من الزمن. وكان الناس في تلك الأثناء يحسبونني عضواً في مجلس إدارة النادي، فيدهشون حين يكتشفون أنني لم أكن على رغم ما كان يربطني بالنادي من صلة وثيقة وقديمة نسبياً، عضواً في مجلس إدارته. لكن النادي، سواء جئته محاضراً أو مديراً للقاء أسبوعي أو مسؤولاً أو مشاركاً في وجوه نشاطاته المختلفة، كما في تأسيس مجلتيه «قوافل» ثم «حقول»، ظل ميداناً أساسياً وأثيراً لدي أنتمي من خلاله إلى الحركة الثقافية في المملكة وأشارك في دعمها والانتفاع بما توفره لي ولغيري من فرص النمو الفكري والإبداعي. وأعلم أنني كنت في ذلك على غير ما كان يراه كثير من الأصدقاء الكتاب ممن ينظرون بعين الشك إلى المؤسسة الثقافية بوصفها كياناً قادراً على احتواء المبدع أو المثقف وتجييره لمصلحة الخطاب الرسمي. كنت وما زلت أرى أن العلاقة ينبغي ألا ينظر إليها من هذه الزاوية وأن علاقة جدلية ينبغي أن تحل محل النظرة الحذرة من الجانبين بحيث يمكن لكليهما، المؤسسة والفرد المثقف والمبدع، أن يبنيا مشهداً ثقافياً غنياً يستفيد منه الطرفان. تلك الشراكة الثقافية والإبداعية كانت ولا تزال الدافع الذي يحركني حين عدت إلى النادي قبل نحو ثمانية أعوام عضواً في مجلس إدارته الذي تولى رئاسته في تلك الفترة أستاذنا الدكتور محمد الربيع وحين اتصلت بي العلاقة لأشرف بالحلول محل الأستاذ الربيع رئيساً للنادي. واليوم وأنا أعود إلى هذه المؤسسة التي عشت في ظلالها ردحاً من الزمن ومن الباب ذاته الذي دخلته قبل ربع قرن مشاركاً مستقلاً في أنشطته، لأحضر النشاط وأشارك فيه من مواقع غير إدارية، فإني أراني من الناحية الجوهرية الشخص نفسه الذي طلب من رئيسه ذات يوم أن يلقي محاضرة في رحابه. بعد أن جئت عبدالله بن إدريس آتي اليوم إلى عبدالله الوشمي لأطلب إتاحة الفرصة لي للمشاركة في النشاط. إنه الوضع الطبيعي أيها الإخوة والأخوات، فالعلاقة بين المثقف والمؤسسة، تقوم أساساً على اختيار حر ورغبة لدى الطرفين في تنمية الحركة الثقافية وإثرائها. العمل من خلال المؤسسة وجه من وجوه المساهمة التي يقدمها الفرد، لكنه لا يعدو أن يكون وجهاً واحداً، وجهاً عابراً ينتهي لا محالة ليعود الفرد إلى الوجه الأكثر ديمومة فيمارس دوره مثقفاً أو كاتباً أو مبدعاً ليس إلا. يهمني في هذه المناسبة الغالية على نفسي أن ألمح، إن سمحتم لي، إلى الجانب الذي قلما نتأمله في العلاقة بين المثقف والمؤسسة الثقافية المتمثلة هنا في الأندية الأدبية. فبعد مرور ما يقارب ال35 عاماً على إنشاء أول الأندية الأدبية في المملكة لا نزال بحاجة إلى تحليل طبيعة هذه المؤسسات ودورها. الأندية الأدبية التي ترتبط بحياتنا الثقافية وليس الأدبية وحدها بعلاقة مفصلية وبالغة الحيوية قدمت كثيراً من الندوات والمحاضرات والأمسيات ونشرت كثيراً من الكتب، ولكنها لم تتجاوز ذلك إلى التوقف عند تكوينها هي، عند طموحاتها وتحدياتها، كيف دعمت وكيف لم تدعم، كيف نشرت وكيف لم تنشر، من قدمته من الكتاب ومن لم تقدمه. كما أن أحداً من الباحثين لم يتوافر، بحسب علمي، على النهوض بذلك التأمل الملح لتقويم التجربة. واليوم ونحن نمر بما يعد بأن يكون مخاضاً تولد فيه المؤسسات من جديد أحوج ما نكون إلى ذلك التأمل لكي نستفيد من التجربة السابقة بمنجزاتها وإخفاقاتها، وعلى الأندية أن تكون شجاعة في مواجهة نفسها لكي تدلف إلى مرحلة جديدة وهي أقوى من ذي قبل سواء بقيت في شكلها الحالي أم تبدل بها الحال إلى أشكال أخرى. لقد شهدت الأعوام القليلة الماضية إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الأندية الأدبية، أو تاريخ كثير منها، وعلى النحو الذي لا يستطيع المنصف أن يتجاهله، وأظن أن الملتقيات التي تقام هذه الأيام ومنها ملتقانا هذا من الشواهد الكثيرة على ذلك. غير أنه ينبغي لما أنجز أن يكون أيضاً شاهداً على ما لم ينجز بعد، وبحسب الحاضر أن يكون شاهداً على الغائب تعزيزاً للإمكانات وتوسيعاً للاحتمالات. ولعل من الطبيعي أن يمتد هذا التأمل ليشمل الشريك الثالث في هذه العلاقة وهي الجهة المنوط بها الإشراف على عمل الأندية وتقديم الدعم الأساسي لها، أي وزارة الثقافة والإعلام. إننا بحاجة إلى نظرة محايدة إلى هذه العلاقة بأطرافها الثلاثة، المثقف/المبدع والنادي والوزارة، وبالعمق والاتساع الذي يساعد في الوصول إلى المرحلة المقبلة بإنجاز أكبر. وفّق الله الجميع إلى كل ما فيه الخير والنماء لهذا الوطن بقيادته وبأهله ومؤسساته ومنجزاته، وشكراً لنادي الرياض الأدبي ممثلاً في رئيسه الدكتور عبدالله الوشمي وفي أعضاء مجلس إدارته من الزملاء لما أكرموني به على رغم تواضع الإسهام الذي قدمت خلال الأعوام الأربعة الماضية، ولا أحسب ما فعلوه إلا من باب حسن الظن والوفاء. وأود أن أتوجه بشكر خاص لراعي هذه الحفلة، الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، على هذا الحضور الدائب والداعم في محافل الثقافة حتى بات ذلك الحضور، في ما تطالعنا به الصحف، محل غيرة من الإعلاميين. مع أننا نعلم جميعاً حجم ما يقدمه في خدمة الإعلام بقنواته المرئية والمسموعة والمقروءة. لكنني مع ذلك أود للغيرة أن تستمر وأن نحظى به وفقه الله وزيراً للثقافة أولاً. * ورقة قدمت في حفلة تكريمه على هامش ملتقى النقد.