يتحول الماضي في رواية الكاتب العراقي علي بدر الجديدة «الكافرة» (منشورات المتوسط) إلى كوابيس رهيبة، تعيشها شخصيات تجد نفسها معزولة في فضاءات غريبة عليها. ماضٍ يطبعه العنف ما ينفك يطاردها، ويدفعها إلى التخفي وراء هويات جديدة، والتنكر لأسمائها الحقيقية ولتاريخها وحياتها القديمة. رواية «الكافرة» تقارب واقعاً مركباً: عنف طليق بلا هوية محددة يدمر الحياة وأسبابها، وفحولة متغطرسة في مقابل أنوثة مغتصبة، إضافة إلى شرق متخلف وغرب غير مكترث. ويبدو علي بدر يخوض في منطقة وعرة، عندما يعمد إلى كتابة العنف العربي وتقصي ملامحه روائياً. تفشل شخصيات الكاتب العراقي المقيم في بلجيكا، في التصالح مع ماضيها أو الانفصال عنه، إذ تبقى مشدودة إليه، وعاجزة عن مواصلة حياتها شخصيات سوية. ولئن اختلفت طبيعة الماضي من شخصية إلى أخرى، من ماضي العنف فيه يأتي بهوية مسيحية إلى ماضٍ آخر أكثر مساحة ويميزه تطرف بصبغة إسلامية، فإنهما يكونان صورة واحدة للتطرف الذي يمزق عواصم عربية ويفتك بشعوبها. تبتكر هذه الشخصيات، التي تميل إلى العزلة والصمت والانكفاء على الذات، حكايات وقصصاً تختبئ وراءها. وإذا كان أدريان اللبناني الذي ينتظم والده في ميليشيا انتقاماً لشقيقته التي قتلت ويقوم بتصفية عائلة بكاملها، اختار شقة يودع فيها أحلامه ورغباته السرية وحزنه المرير، فإن فاطمة التي أصر زوجها المتشدد على تفجير نفسه من أجل سبعين حورية، آثرت أن تواصل العيش في ثياب صوفي البلجيكية. وفي حين يبدو أدريان غامضاً وكتوماً، تتبدى صوفي واضحة تحكي وتسرد قصصاً وحكايات، وتفاصيل كثيرة عن حياتها الماضية والحاضرة. تستعير فاطمة اسم صوفي بعد أن تنجح في الهرب إلى بلجيكا وتخترع حياة جديدة لها، تهرب من مدينة كئيبة ومنازلها كالحة، إلى مدينة أخرى صاخبة وضاجة بمباهج الحياة وألوانها، فيما ينكر أدريان لبنانيته وأنه ابن غابرييل جبور، مفضلاً هويته الإسكندنافية، حيث ولد من أم نرويجية. لا تبدو شخصية أدريان مستقلة في الرواية، إنما يظهر بوصفه تفصيلاً أساسياً في حياة صوفي المليئة بالنبذ والحرمان، وفي الوقت نفسه لا غنى عنه عند رسم صورة مكتملة للعنف الطائفي والمذهبي، الذي يتفشى في المنطقة العربية. فأدريان، الذي يرقد طوال الرواية في مستشفى فاقداً الوعي جراء حادثة سيارة، لا يحضر سوى من خلال صوفي، التي تخاطبه مرة في شكل مباشر، «لا تنصت إلى نحيبي، أنا امرأة ملعونة، امرأة كافرة، خرجت على العشيرة، فشحبت روحها»، عندما تكون أمام جثته الهامدة، ومرة ثانية تتحدث عنه بصفته سبب سعادتها، التي تشعر أنها لن تدوم، حين تعي حقيقة شقائه. كأنما تراجيديا حياتها لا تكتمل سوى باستيعاب المأزق الوجودي الذي يعيشه أدريان، كيف لا وهما معاً موضوع لعنف وتطرف الآخر، الذي يهدد حياة كل منهما. يتحول جسد أدريان المسجى أمام صوفي في المستشفى، إلى ما يشبه «حجر الصبر» في رواية الأفغاني عتيق رحيمي، فتندفع بالاعترافات عن رغباتها المقموعة وأحلامها القتيلة، عن الرجال الذين عبروا جسدها بعد أن عرتهم وسخرت منهم، عن علاقتها به هو أدريان، الذي يرنو إلى بلاد بلا نزاعات ولا تعرف الحروب، ويتوق إلى التخلص من مصيره ومن تاريخ عائلته، الذي يبهظه مثل تركة ثقيلة. تبدأ حكاية أدريان عندما يشاهد فيلماً وثائقياً ألمانياً عن الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، في الفيلم سيتعرف إلى والده الذي يعترف بتصفيته لعائلة كاملة سوى طفلة ستنجح في الهرب، لكنها تتحول إلى كابوس يطارده حتى تفقده عقله ثم تدفعه إلى الانتحار. يشعر أدريان بفداحة الذنب ولا يملك إلا أن يعود إلى لبنان ويفتش عن الطفلة التي كبرت ويتزوجها، لكن ضميره ما برح يعذبه. يدرب أدريان نفسه على التخفي، بتغييب جسده عن الناس، لائذاً بشقته البعيدة عن منزل الأسرة الصغيرة، فلا تفضح زوجته حقيقته، بصفته الولد لأب حرمها من كل أفراد أسرتها، وفي حين يغيّب هو جسده، تفشي صوفي جسدها تشهره في وجوه الرجال، الذين يتساقطون عند قدميها. في بروكسيل ستكتشف فاطمة جسدها، الذي طالما دفنته في ثياب سوداء باعتباره عورة، هي التي لم تكن ترى سوى وجهها في مرآة صغيرة، لكنها هنا في بروكسيل ترى جسدها كاملاً، ستجده جميلاً وتسقط في غرامه، وتعرف أن آخرين يريدون هذا الجسد. بإغواء الجسد وإغرائه ستستدرج سبعين رجلاً إلى فراشها، في ما يشبه الانتقام من زوجها الذي خلفها وحيدة، بعد أن أذلها بقوله إنه سيفجر نفسه لأن سبعين حورية سيكن في استقباله. لم تكن صوفي التي تؤمن أنها كلما كانت أكثر وعياً، تحررت من وضعيتها باعتبارها امرأة شقية، تشعر أنها ترتمي في الدنس عندما تسلم جسدها لرجل تلو آخر، إنما كانت تعلن من خلال هذا الفعل، عن حياة مختلفة تخوضها، عن روح جديدة تسكنها. تتصالح صوفي أو فاطمة من خلال العلاقة الجنسية مع جسدها، الذي أخفته وأزالته من وعيها، هي أيضاً تكتشف جسد الآخر، الذي كان مجهولاً بالنسبة لها، ومن خلال اكتشافه تتعرف إلى حاجاتها التي لم تكن تعرف عنها شيئاً. إلا أن المسألة، مسألة العلاقة الجنسية، لا تقف عند حدود التعرف إلى جسدها وجسد الآخر، إنما أيضاً تدخل في سياق تصفية الحسابات مع الرجل وغطرسته، تبدد الصورة المزيفة التي يحملها الرجل عن نفسه، وتجعلها في الحضيض. كأنما تعاقب كل أولئك الرجال المتشددين، الذين عرفتهم في لحظة سوداء من حياتها، بدءاً من والدها الذي كان يضرب أمها، إلى زوجها الذي ينضم إلى مسلحين يذهبون يومياً للقيام بمهمات غامضة، وانتهاء بالمهرّب الذي اغتصبها بينما يقوم بتهريبها. تارة تحولهم إلى لعبة وتارة أخرى تضحك عليهم وتحطم عنجهيتهم، وتكتشف وتكشف كم هو الرجل هش وساذج وغبي. في رواية «الكافرة» يهيمن الماضي على راهن الرواية، يلتهم الحاضر ويشوش الرؤية إلى المستقبل. التذكر والاسترجاع والوثائقي والمونولوغ وتعدد الضمائر، تقنيات يلجأ إليها علي بدر لاقتراح صورة سوداوية لذوات معطوبة بسبب العنف، ولمدن يضربها التطرف ليل نهار.