ينسج الروائي العراقي علي بدر، في روايته الجديدة «الكافرة» (دار المتوسط الإيطالية، ميلانو 2015)، خيوطاً متعدّدة الإيحاءات - زمنياً - في مكاني الأحداث لاسترسال بطلته صوفي في إعادة سرد قصتها من وجهة نظرها. ربما اختار إعادة كتابة تواريخ بعينها ليبدأ منها، بعدما غادرت ذاكرتها واسمها الى الأبد وعاشت في حاضرين روائيين: حاضر الذكريات، وحاضر المستقبل الذي يصرف أفعاله بقسوة. ثم نكتشف أن فاطمة التي عاشت في مدينة على تخوم البادية المحاطة برجال قساة جدد جاؤوا من أمكنة بعيدة وغامضة لإعادة كتابة تاريخ المنطقة، لا كما تريد الراوية صوفي، وإنما كما يراد لفاطمة أن تستمع وتستعين بهم. تبدأ الرواية على خطين متلازمين لا يمكن تفكيكهما. لا بل إن خطأ فادحاً قد يرتكب في مجريات السرد لو أتيح فك العرى التي تعيد تربيط الأحداث بعضها ببعض. تبدأ صوفي التي تلتزم إعادة رواية حكايتها البعيدة بحكايات أقرب، من حادثة السير التي تعرّض لها حبيبها الاسكندنافي «الأشقر»، أدريان. ومن ثمّ سرعان ما ترخي الحادثة بظلالها على ماضي أدريان. فهو لم يعد ينتمي الى حاضره، إنما يعود في ملكية ذكرياتها عنه الى ذلك الماضي القاتم المرتبط بالحرب الأهلية في لبنان. هو ابن لغابرييل جبور، اللبناني الذي شارك في الحرب وساهم بقسط وافر مثله مثل آخرين في بعض «موبقاتها «. قتل أو استغرق في القتل وشرد ليكفّر عن خطاياه ويتطهر. يزوره شبح تلك الفتاة التي حاول قتلها أثناء تنفيذ الميليشيات التي ينتمي إليها مجرزة مريعة، غير أنها نجت بأعجوبة. يطارده الشبح في نومه ويقظته، ما يدفعه الى الهرب. وبالمصادفة، يظهر في فيلم وثائقي لمخرجة ألمانية، وتظهر الى جانبه الضحية نفسها. ولأن أدريان معني أيضاً بمقلب الذكريات، وله منها حصة لا يمكن أن تفارقه، يبحث عن الضحية ويتزوجها وينجب منها طفليه. البحث في الماضي تضعنا صوفي التي تصل الى هذه الاستنتاجات في بحثها عن ماضي أدريان المرهق، على سكة النبش في ماضيها أيضاً. هي فاطمة قبل أن تنشقّ مجتمعياً عن مركبات الزمن الحاضر. أدركت ما يدور حولها في اللحظة التي انقض فيها المتشددون على مستقبلها في المدينة المستبعدة من الحضارة، والتي تتأرجح على تخوم الصحراء. وصار لزاماً على الجميع، بمن في ذلك عائلتها، تقديم الطاعة لهم. لا يمكن إنكار الإضاءات التي تبحث عنها فاطمة في اللغة، وكأن فعل السرد صار يميز بعض نرجسيتها اللغوية ويضيئها، أو هو صار هوية ملازمة لها. في مثل حالة صوفي/ فاطمة التي تتعارض في كل شيء، نجد أن الاقتراب من سمات هذه الهوية ليس سهلاً أبداً. من قال إن تخلّيها عن هذه النرجسية لحساب استمالة حاضرها الأوروبي حيث تعيش، سيكون في مأمن من إعادة تركيب النص نفسه؟ خصوصاً فيما نرى كل تلك الحشود في اللغة التي ينصبها الروائي في طريقه لإعادة سرد قصته بالتواريخ والأزمنة التي تؤكد أن حالات مثلها تتكرر بأرقام أخرى. لا يغفل بدر عن تأجيج هذه الحشود في اللغة: يبحث عن مترادفات. يقيم متواليات في السرد على خطين. يقترب من محرمات معيشة حتى يمهد لظهور «الكافرة» حين يقرر المتشددون رجم فتاة في السابعة عشرة من عمرها في ساحة البلدة بسبب سفورها. تلتقط فاطمة معنى «المصطلح»، وتبدأ تعيش على هديه كي يمكنها أن تكمل قصتها، بخاصة أن جسدها بدأ بالتفتّح، وصارت تنتبه إليه وتكتشفه. ليس بعيداً من هذا التأجيج، نتابع صمت الأم وسكوتها عن قسوة زوجها الذي حسم تردده في الحياة وانضم الى المتشددين. ومع أول سانحة لتأبيد طاعته وانتظامه في صفوفهم، ذهب نحو تنفيذ عمل تفجيري انتحاري في سوق شعبي بعدما بسط هيمنة مسلوبة وهمية على رفقائه في التشدّد وعلى أهالي بلدته. تعاني الزوجة قسوة الزوج الجديد وجوره على فاطمة، مثلما تعاني فاطمة حين تتزوج من ذلك الشاب المدلل اللطيف الفاشل الذي لا تفارقه أمه، وهي حين تموت يتغير الشاب ويقرر الانضمام الى المتشددين بهدف تنفيذ عمل انتحاري يخوّله الفوز بسبعين حورية. هنا يبدأ الافتراق عند فاطمة التي تقرر الهرب في اللحظة التي تشعر فيها بأنها ستصبح زوجة لأحد هؤلاء. تفرّ مع مهرّب يغتصبها في الطريق. لكنها تكمل طريقها في شاحنة للفواكه وتصل بلجيكا. هناك تنسف فاطمة التي تتحول الى صوفي، فكرة الشرق والغرب. لا يعود هو الشرق الملجأ الأمين لكل ما يستفز الغرب ويستثيره، ولا يعود الغرب مسكّناً للعقل الشرقي في كامل تقلباته وشروخه وتعدياته على المفاهيم التي يعيد إنتاجها في هذه الحاضنة. تبدأ صوفي باستدراج سبعين ذكراً الى فراشها. تنتقم من فكرة زوجها الانتحاري عن الحوريات، وتؤسس لانقلابها على كل الأفكار التي حملتها معها وجاءت بها، قبل أن تستفيق على هويتها الثانية في المنفى الجديد. هوية مزدوجة يحاول الروائي العراقي إعادة منح هوية أنثروبولوجية لطرفي الرواية: صوفي وأدريان. كلاهما هاربان من جحيم مؤرق لهما. هو يتطهر بطريقته من دنس الحرب القاتلة، وهي تتطهر بطريقتها من دنس لحق بها نتيجة تفكير زوجها الذي لم يقبل بجسدها كامرأة له، فضحّى بنفسه من أجل أن يفوز بالحوريات الموعود بهن. «الكافرة» شديدة الثراء والخصوصية في مشوار علي بدر الروائي لجهة تحميل شخصيته نواة «السرد المتقابل»، إن اعتبرنا أن صوفي تقوم بذلك الجانب من السرد الذي لا يطاوله الراوي في لحظات معينة. ليس ذلك التفضيل هو الأساس في خطة بدر للحكاية، لكن يظل أن اليبوسة التي تعيشها فاطمة في مدينتها النائية الواقعة على تخوم القسوة وشظف العيش والتنكر لكل ما هو مديني وإنساني ونيّر من طريق تأويل المتشددين، ولكل ما يمكن أن تقع عليه عين في حياة الناس العاديين، مهدّدة بألا يقابلها ما يفترق عنها في منفاها البلجيكي. لا يكفي أن تنزع نقابها لتعيش تلك الحياة المزدوجة: فاطمة التي تعمل في النهار باسم وهوية محدّدين، وصوفي في ليل البارات باسم وهوية أخريين. هنا يمكن القول إن علي يصنع من جهتي الغرب والشرق هوية، لكن ليس بالمعنى الذي تقوم عليه أوهام - أو بعض حقائق - الاستشراق، بل ذلك «الهراء الذكوري» الذي يستنسخ جسد الأنثى في كلتا الجهتين، وكل واحد منهما معمم بطريقته. لهذا، ربما كان يجب أن تنطلق الحكاية من حادثة سير عادي أبقت على أدريان في «كوما» تذكر بمونتاج المكان، الذي يتوغل في الزمن ليسرد الحكاية بطريقته من طريق تأمين متتاليات في السرد يمكن أن تقوم على خطين متوازيين ينفع معهما التقطيع الحركي بغية خلق إيقاع في الإطار الزماني والمكاني الذي تقوم عليه الحبكة، أو في ذلك المونتاج المشهدي لحكاية تريد أن تنسرد ببنيتين متقابلتين، وهذا قد يخلق نوعاً من الانتظام في مجريات السرد يغتني من اللغة والشعر معاً.