في السؤال نصف الإجابة، وكل «وجود إنساني» تزاحمت فيه «الأسئلة الجيدة»، يجدر الاحتفاء به وبها، فهي الفرصة للتفكّر والتطور، وكل وجود إنساني احتشدت فيه الإجابات المخزّنة، هو وجود ميت أو شبه ميت، فبالسؤال بدأت المعرفة وتجرَّأ الإنسان على حاضره والمسلَّم به، وتمرَّد على ما يحاصره، أما المخلوقات غير الإنسانية فلا تسأل ولكنها تقبل حاضرها بما فيه، وعليه نسأل: «هل تبددت دواعي تقديس الأنثى؟» - التقديس في جوهره هو الإيغال في احترام الشيء وتبجيله - فهو أقصى درجات الإعلاء، وينبغي التفريق بينه وبين الإيمان الذي هو في أساسه ديني يقوم على مفهوم الغيب، ويعقله العقل (أفلا تعقلون، أفلا تتدبرون، أفلا تتفكرون) أما التقديس فتأملي يقوم على التحقق ثم الاقتناع بأهلية المراد تقديسه، وبالتالي رفعه إلى درجة التقديس، ومن هنا تُسبغ صفة التقديس على العمل والزواج وما إليهما، فما الذي حدث عبر الزمان؟ نُكبت الإنسانية بخلطها بين القداسة والدين، فارتفعت بالمقدس إلى رتبة الإيمان، ثم ألغت حكم العقل فيه، مع أن كل دين مقدس، وليس شرطاً أن يكون كل مقدس ديناً، فماذا نتج من هذا الإرباك؟ انطمرت قداسة الأنثى بالدناسة التي ألحقت بها، فصار أمرها خليطاً بين قداسة أصلية حظيت باعتراف البشر لفترة، ودناسة مكتسبة بتراكم ثقافي، ولا نزال نراوح، فمرة هي الأم والأخت والابنة المبجّلة، وكثيراً هي مجرد وعاء وحليفة شيطان ملأت العالم تشويشاً ولا تستحق الارتقاء إلى منزلة الرجل. يؤخذ على المرأة ارتباطها بالحيض، فإذا كان الدم هو سر الإنسان وسر حياته، فالدم في الأنثى الذي يفيض من باطنها كل شهر هو بمثابة إعلانها الدوري بارتباطها بسر هذه الحياة، بل وبامتلاكها له، وكأن الأنثى مرتبطة بالفعل المقدس لا ينفصل عنها، الحيض ليس نجساً وإلاّ كان تكويننا نجساً، فهو إن حبس أصبح جنيناً، الحيض أولى علامات القداسة الأنثوية، فهل هناك ارتباط آخر؟ نعم، فالحليب الذي ترضعه لوليدها هو مورد آخر لسر الحياة، وهو محل تقدير الطب بمكوناته المناعية إلى أن تقوم الساعة، ولأن الأنثى في نظر الرجل كائن سحري غامض يحوي أسرار الوجود، ولأن سر الأنثى باقٍ على حاله بالتقائها بالرجل أو بعدم حصوله (أثبت العلم الحديث أن الاستنساخ لا يحتاج إلى وجود ذكر)، أدرك الرجل خطورة دورها، وثانوية دوره في إتمام دائرة الوجود، فعمل على تحييد أمرها، وبدايته باليهود (المدونات التوراتية) الذين ربطوا بين الرجل والقداسة بتفعيلهم حكاية: الرجل الكاهن، مع أن الكهانة في فجرها كانت أنثوية (نصوص متأخرة ونقوشات أثرية)، وكاهنات المعبد هم الأصل وليس كهنته، ولأن القداسة فعل جماعي، فلا يوجد مقدس بذاته ما لم يوافق عليه المجتمع (أكيد الذكوري هنا لسيادته)، فهكذا انتقلت فكرة القداسة للرجل، وترسخت واستمرت بتهوين الأنثى والإمعان في إهانتها، فجاء الدين وكرَّمها، ولكن الظاهر أن الرجل أعاد صياغة التكريم السماوي ليتناسب مع أرضيته، أيكون لعلمه أنها لو تساوت به لتفوقت عليه! يجوز! ما يؤنث الأنثى أعمق من شكلها وزينتها واكتمال مفاتنها، ما يؤنث الأنثى هو ذلك التجلي العلوي لحظة التكوين داخل تجويفها... لحظة تجلَّي قدرة الله ووحيه الكامن فيها، ثم لحظة الإنجاب والانبثاق، وإشراق شمس الباطن من رحمها، لذا سميت بالوالدة، فهي التي تلد، أما الرجل فلا يلد، فيكفيه لقب الأب، فالأمومة طبيعة، والأبوة اكتساب، الأمومة عقيدة ويقين، والأبوة غلبة ظن، يقول محيي الدين بن عربي: «المكان الذي لا يؤنث، لا يعوّل عليه». [email protected]