أسأل دائماً عن الحركة النسائية في أي بلد أسافر إليه. ألتقي كثيراً من الزعيمات المخضرمات أو الشابات، لنتبادل الخبرات، ولننظم معاً مؤتمرات دولية أو إقليمية. وتعتبر برشلونة من أجمل ما رأيت من المدن، فهي تجمع سحر الشرق والغرب، وتمزج الفن الإسباني بالعربي، فضلاً عن أنها أكثر المدن تحرراً في إسبانيا، وربما في أوروبا كلها. وفوق ما تقدم، فإن برشلونة هي عاصمة كتالونيا، أكثر المقاطعات الإسبانية ازدهاراً وتقدماً، وأقربها إلى فرنسا. هي أيضاً تجمع إيجابيات النهضة الأوروبية والثورات ضد الكنيسة. تخلصت من ديكتاتورية فرانكو وقادت الشعب الإسباني إلى حرية لم أشهد مثلها في أوروبا أو أميركا. دهشت قبل نحو عشر سنوات حين رأيت رواياتي وكتبي باللغة الكتالونية في المكتبات العامة والجامعات. أصبحت أستاذة في جامعة برشلونة عام 2002، أدرّس الإبداع والتمرد. حصلت على أكبر جائزة أدبية قدمها لي رئيس كتالونيا في حفلة كبيرة عام 2003، يسمونها «بريمى انترناسيونال كتالونيا»، حصل عليها من قبل كلود ليفى شتراوس ودوريس ليسينغ وفاكلاف هافيل وكارل بوبر. هي اليوم من أهم الجوائز الدولية. يسمونها «نوبل الفكرية»، وكثيرون ممن حصلوا عليها نالوا جائزة نوبل للأدب. قبل عشر سنوات، سألت عن زعيمة الحركة النسائية في إسبانيا، قالوا إنها الأستاذة ليديا فالكون المحامية وأول امرأة في أوروبا تنشئ حزباً نسائياً وترأسه. دعتني ليديا فالكون إلى بيتها في برشلونة. تزيد أهمية برشلونة عن مدريد العاصمة، من حيث الثقافة والفكر والاقتصاد والسياسة. معظم المثقفين والفنانين يفضلون الحياة في برشلونة. شواطئها الساحرة على البحر الأبيض المتوسط، أجمل من شواطئ الريفيريا التي يتغنى بها من لم يروا برشلونة. إحدى رواياتي عنوانها «الرواية» كتبتها في بيت علوي يطل على شاطئ برشلونة وتمثال كولومبس الذي يشير بإصبعه إلى الجنوب، وليس إلى أميركا التي اكتشفها في الشمال. ربما أراد أن يكتشف الجنوب أيضاً أو يعيد اكتشافه، منحني اتحاد الكتاب في برشلونة هذا البيت لأكتب فيه روايتي. دارت أحداثها ما بين القاهرة وبرشلونة. كتبتها بالعربية وصدرت عن روايات «الهلال» في القاهرة عام 2004، وترجمت إلى الكتالونية قبل الإسبانية والإنكليزية وغيرهما. ربما شعرت أن برشلونة هي وطني الثاني، واللغة الكتالونية هي لغتي الثانية، أفهمها بالإشارات والأصوات والإيماء كما أفهم الموسيقى والرقص الكتالوني، الفلامنكو. أرقص الفلامنكو كأنما تعلمتها في بطن أمي، وهي رقصة أصلها عربي تم تطويرها لتصبح من أجمل رقصات العالم. تجمع الفلامنكو بين العنفوان العربي البدائي والحداثة البرشلونية الكتالونية الرقيقة. أقدام تدق الأرض بقوة حوافر الخيول العربية الأصيلة، وأعناق ترج الرؤوس والقلوب بسحر الإيقاع وخطو الغزال. أصبحت ليديا فالكون صديقتي منذ اللقاء الأول. شقتها بسيطة تشبه شقتي في القاهرة. كانت تجلس في الصالة، ساقها ممدودة أمامها داخل جبيرة من الجبس. حادث بسيط شفيت منه سريعاً على رغم تقدمها في العمر. تبدو في السبعين، وتتفجر حيوية على رغم انكسار عظمة ساقها اليمنى. والحزن في عينيها على رغم الابتسامة المشرقة، إلى جوارها بعض الشابات من عضوات حزبها النسائي، تحظى برعايتهن كالأم الروحية والقائدة الفكرية، بعضهن يعدّ لها طعامها. بعضهن ينظف الشقة. واحدة تناولها الدواء وكوب ماء. واحدة تتابع بريدها الإلكتروني. مشهد مفعم بالحب والحنان والتقدير، لم أشهد مثله في بيوت العائلات البيولوجية الكبيرة أو الصغيرة. ضحكت ليديا بعدما فهمت النظرة في عيني: كلهن بناتي وحفيداتي. هذا حزبنا النسائي، الذي يربط السياسة بكل شيء في الحياة. ليس مثل الأحزاب الذكورية التي تدور في فلك نظري لا يرتبط بحياتنا داخل البيوت. ربما تُدهشين لأنني ألتقي بك في بيتي وليس في مكتبي في الحزب، لكنني كما ترين أعاني شرخاً في ساقي، وأعاني أيضاً شرخاً في قلبي. اليوم فقط حمل زوجي حقيبته وغادر البيت من دون رجعة. ربما تُدهشين. عشت معه خمسة وأربعين عاماً نناضل معاً ضد النظام الرأسمالي الذكوري داخل إسبانيا وفي العالم كله. كنت أعطيه لقب «الرجل الوحيد الفيمينيست في الكون»، سرنا معاً في تظاهرات، تعرضنا معاً لضربات، ثم اكتشفت بالأمس فقط... كانت تحدثني باللغة الإنكليزية. صوتها شرخ فجأة وسكتت. البنات من حولها واجمات. وقلبي يدق كأنما أنتظر حدثاً جللاً أو كارثة: اكتشفت ماذا يا ليديا؟ خرج اسمها من بين شفتي من دون لقب أستاذة، كأنما أخاطب واحدة من صديقات الطفولة. استعاد صوتها قوته ولمعت عيناها بالبريق من دون أن تبتلاّ: اكتشفت أنه يخونني مع البنات من عضوات الحزب النسائي الذي أنشأته. من دون أن أدري كان يصطاد من مكتبي البنات. ثقتي به كانت عمياء. عميت عن أبسط الأشياء، حتى مساء أمس. اكتشفته بالمصادفة واضطر إلى الاعتراف. عشيقته الأخيرة تصغره بخمسين عاماً، في الخامسة والعشرين من عمرها وهو في الخامسة والسبعين. يكبرني بخمسة أعوام. فتاة فقيرة نصف مومس، تتطلع إلى المجد من دون جهد. تصطاد العجائز الأثرياء البلهاء المصابين بتصلب الشرايين وتجمد العقل. بذكاء العاهرات وخبثن توقعهم في الشباك. تحت اسم الحرية والتعددية و «الفيمينيزم». سألتها: وهل الثقة في الآخرين غشاوة على العقل والقلب؟ قالت: لم تكن غشاوة كاملة. كنت أحس بما يحدث، ولكنني كنت مشغولة بالحزب النسائي. لم يكن زوجي محور حياتي. كنت أحبه فقط، وأحترمه، وأساعده في كل ما يعمل. وهو كان يساعدني، لكن كل منا له شخصية كاملة من دون أن يكمل الآخر. لم يكن يعيش من أجلي. ولم أكن أعيش من أجله، كما حدث لأمي التي عاشت لأبي وأطفاله، ومنهم أنا. لم تعش لنفسها يوماً واحداً. حين اكتشفت خيانة أبي لها أصابها شلل نصفي وفقدت النطق حتى ماتت بعد شهرين ونصف شهر. قلت بدهشة: زوجك مثل أبيك؟ خائن؟ قالت: أبوه أيضاً كان خائناً لأمه. وقف في صف أمه وقاطع أباه. كان يقول لي: «لن أغفر خيانة أبي لأمي»، لكنه فعل معي بالضبط ما فعله أبوه بأمه. قلت: ربما ورث جينات أبيه الخائنة؟ أطلقت ليديا ضحكة مرحة. كأنما خيانة زوجها عابرة. تنزلق من ذاكرتها انزلاق قطرات الماء من فوق ظهر الأوزة، وقالت: تحولت القيم الذكورية الفاسدة منذ العبودية إلى جينات في خلايا الرجال. قلت: وماذا عن خيانات النساء يا ليديا؟ قالت: المرأة تخون انتقاماً من الرجل. لكن الرجل يخون بحكم الطبيعة الذكورية؟ قلت: بحكم التاريخ العبودي الطويل وليس الطبيعة. الطبيعة ذكورية أو أنثوية متغيرة على الدوام. لا توجد طبيعة بشرية بل توجد دوافع. هل كانت لزوجك دوافع معينة لتفضيل هذه الفتاة عليك أنت يا ليديا فالكون يا زعيمة الحركة النسائية في إسبانيا؟ ابتسمت بإشفاق وقالت: هذا هو الدافع الأساسي في رأيي، كنت أنا بؤرة الاهتمام وليس هو. كانوا يقولون عنه زوج ليديا فالكون، وأنا ليديا فالكون، وليس زوجة فلان. كان هو فلان غير المعروف. هذه الفتاة فهمت عقدته. صنعت منه البطل، الذكر. ترقد تحت قدميه مثل الجارية، تناديه «فينتشي»، فتنتفخ أوداجه. يفتح لها كيس نقوده، وجيوب سرواله. القاهرة 6 نيسان (أبريل) 2010