لم يتوقف الموسيقي الهنغاري ديفيد بافيلوفتس عند الحادثة المأسوية التي تعرض لها عقب آخر حفلاته في الإسكندرية قبل خمس سنوات تقريباً، وتسببت في عدم مقدرته على استخدام يده اليمنى... بافيلوفتس الذي وصف «بالقريب من العبقرية»، لم يعتبر الحادثة سبباً يقصيه عن الحياة، بل عدّها تحدياً استثنائياً فُرض عليه وينبغي اختراقه وتطويعه، فاستعان بيده اليسرى وعاد ليبدأ من جديد. لم تكن البداية الثانية سهلة ولا يسيرة، بل عانى فيها من «قسوة استثنائية ومعاناة حقيقية» ليعود إلى مستواه المميز كعازف موهوب. ويقول بافيلوفيتس ل «الحياة»: «رفضت اليأس والخنوع والمرض، لم أسمح للألم بأن يسيطر على حياتي، وقررت المواجهة. طوال خمس سنوات وأنا أتحدى فضاءات استثنائية فرضت حولي، حيث كانت الإصابات بالغة، وبدأت التدريب باستخدام اليد اليسرى، وشعرت كأنني ألعب الموسيقى للمرة الأولى في حياتي وعدت إلى بداياتي الأولى». ويضيف: «مرت هذه المرحلة الطويلة بصعوبة، وبدأت استعيد جزءاً كبيراً من لياقتي الموسيقية. كان عليّ العودة مرة أخرى من الإسكندرية للعزف وإقامة الحفلات». بدأ عضو لجنة التحكيم في المسابقات الدولية، العزف على الغيتار وهو في السابعة عشرة من عمره. وعقب ثلاث سنوات، فاز بجائزة مسابقة الغيتار الدولية في زوري في بولندا. بعد ذلك بعامين، فاز بجائزة مهرجان «أزترغوم للغيتار» الأولى وهي أقدم مسابقة للغيتار في أوروبا، ووصفه النقاد حينها ب «العازف القريب من العبقرية». ويُرجع بافيلوفتس شغفه بالموسيقى إلى جدته عازفة البيانو التي توفيت في الحرب العالمية الثانية، والتي سمع كثيراً من الحكايات عنها وعن عشقها للموسيقى من جده العازف في جوقة دار الأوبرا في بودابست من عشرينات القرن العشرين. لعب العازف الهنغاري الشاب البيانو والغيتار في الوقت نفسه، إلا أن الغيتار كان مصدر إلهام له إذ جذبته أنواع موسيقية تتربع هذه الآلة الوترية على عرشها مثل الجاز والفلامينكو والموسيقى اللاتينية والإثنية والكلاسيكية... جال الهنغاري الذي وصف ب «مبدع موسيقى الشباب» في أكثر من ثلاثين دولة، عازفاً على غيتاره، بما في ذلك حفلة موسيقية فردية في قاعة «كارنيغي هول» الشهيرة في نيويورك والتي كانت الأنجح في مسيرته حتى الآن. وبعدها حصل على جائزة «أرتيجس» لنشاطه في الموسيقى المعاصرة. وعن حفلته في الإسكندرية، يقول: «ليست المرة الأولى في هذه المدينة الساحرة. قدمت العديد من الحفلات في الإسكندرية آخرها في مكتبة الإسكندرية العام 2008 (حيث كانت المرة الأخيرة التي استخدم فيها يديه الاثنتين قبل الحادثة). أبحث بشغف عن الجمهور المتذوق وفي الإسكندرية تركت الجمهور خمس سنوات وعدت ووجدته متحمساً في شكل مثير للدهشة». ويرى الملقب «بالشخصية الأكثر إبداعاً من الجيل الجديد» أن الموسيقى لغة لا تحتاج إلى مترجم، هي لغة عالمية تعبر عن كل البشر بمختلف مشاعرهم وأطيافهم وثقافاتهم وتوجهاتهم». ويهتم بافيلوفتس بموسيقى عهد الباروك حيث يقدم إعادة صياغة استثنائية لعدد من أهم المؤلفات الموسيقية لكبار مؤلفي هذه الفترة، مثل باخ وهاندل. كما يقدم محاكاة لأعمال بيتهوفن وشوبان، علاوة على عدد من مؤلفاته الشخصية المتأثرة بالإيماءات والغرائز والعواطف البدائية أو الأصلية والأحاسيس الإيقاعية. وفي موسيقاه تأثير واضح للتراث الشعبي لجنوب شرقي أوروبا. قدم العازف والمؤلف الموسيقي الهنغاري في حفلته الأخيرة في الاسكندرية، مروحة من التراث الموسيقي العالمي بدأت من البرازيل مع مقطوعة لموريل، وصولاً إلى التراث اللاتيني، مروراً بالتركي والموسيقى الصوفية. وعرّج في الحفلة على تراث بلده، مقدماً لحناً شعبياً شهيراً من المجر. أما من مؤلفاته، فقدم مقطوعات «أماتيس»، «الساعة»، «رقصة درامية»، إضافة إلى مقطوعة «السلسلة» التي تترجم قصته الشخصية والعزف بين اليدين اليمنى واليسرى. و»السلسلة» مقسمة إلى ثلاثة أجزاء هي «الأبيض»، «الفضي»، و»الباجاتاه». وصاحبه في الحفلة عازف الغيتار المصري شادي ناجي المتخصص في أداء المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية للغيتار من عصر الباروك والكلاسيك والرومانتيك وبعض من مؤلفي القرن العشرين.