ربما يكون الوقت الراهن هو الأكثر مناسبة ليحدد السياسيون اللبنانيون طبيعة العلاقة التي يريدونها مع سورية بسلة متكاملة ل «علاقات مميزة» تتناول جميع الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين تنطلق من خصوصية التاريخ وقدر الجغرافيا لتلامس المصالح المشتركة للشعبين. في هذه الفترة بعد الزيارة الأولى لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري الى دمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد في نهاية العام الماضي ومع بدء الاجتماعات التحضيرية لزيارته الرسمية في الفترة المقبلة. وبين الزيارتين حصلت سلسلة من التطورات. والى استمرار الاتصالات بين الرئيس الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان، استقبل الرئيس السوري في نهاية الشهر الماضي رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. كما قام رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون في شباط (فبراير) الماضي بثالث زيارة له الى سورية، مع استمرار العلاقة بين دمشق و «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصر الله وعدد من الشخصيات اللبنانية الأخرى. طوت هذه التطورات صفحة استثنائية في العلاقة السورية - اللبنانية استمرت بضع سنوات. تضمنت محاولات خارجية لوضع لبنان في مواجهة سورية ضمن مشروع يستهدف استقرارها ومصلحة البلدين. محاولات كانت في تناقض مع التاريخ وفي تحارب مع الجغرافيا وفي تجاهل للمصالح الفعلية لهما وخصوصاً لقدر لبنان ومصالحه. بقدر ما هو مفيد تأمل المرحلة السابقة بقدر ما هو خاطئ العيش في ارثها وما هو مقلق عدم الإفادة من تجارب الماضي. أي علاقة يريد السياسيون اللبنانيون؟ علاقة عادية كما هو الحال بين لبنان وأي دولة أخرى؟ «متوازنة»؟ «علاقة مميزة»؟ بحسب اتفاق الطائف في عام 1989، فإن لبنان «الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سورية علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما، في شتى المجالات». كما نص الاتفاق على «عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سورية، وسورية لأمن لبنان في أي حال من الأحوال». عليه فإن لبنان «لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سورية. وأن سورية الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته». وجرى تأكيد «تميز» العلاقة و «الترابط» بين أمن البلدين في أحكام «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» في أيار (مايو) 1991 ثم في الاتفاقية الأمنية والدفاعية في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. كان ذلك بمثابة تأكيد المؤكد وتوثيق الأعراف القائمة بين البلدين منذ منتصف القرن الماضي على أساس ترجمة السياق الطبيعي لقدر التاريخ والجغرافيا. إذ في مقابل البحر الأبيض المتوسط وخط الهدنة مع العدو الإسرائيلي، الحدود الطبيعية الوحيدة للبنان، هي مع سورية. بالتالي، التفكير الوطني يقتضي أن تكون العلاقات مع هذا الجار أكثر من طبيعية بما تمثل من بوابة الى العالم العربي والجوار الأبعد ومن مصالح اقتصادية. وبموجب «معاهدة الأخوة»، شكل المجلس الأعلى السوري - اللبناني برئاسة رئيسي البلدين ومشاركة رئيسي البرلمان ورئيسي الحكومة ونائبيهما بحضور الأمين العام للمجلس نصري الخوري. كما انبثقت من المجلس «هيئة المتابعة والتنسيق» التي تنعقد برئاسة رئيسي الوزراء في البلدين وبحضور نحو عشرين وزيراً من كل طرف بما في ذلك وزراء الخارجية والدفاع والداخلية، إضافة الى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التي تعقد برئاسة رئيسي الحكومة وعضوية وزراء الشؤون الاقتصادية، مع تشكيل لجان اختصاصية بين الوزراء المختصين. ويعود آخر اجتماع للمجلس الأعلى الى آذار (مارس) عام 2005 برئاسة الرئيس الأسد والرئيس اللبناني السابق العماد اميل لحود، حيث جرى إقرار سلسلة من المبادئ لتعزيز العلاقات. ونقلت صحيفة «الوطن» السورية الخاصة قبل أيام عن مصادر سورية رفيعة أن «أول من طرح موضوع العلاقات الديبلوماسية كان الرئيس الأسد خلال اجتماع المجلس الأعلى بداية عام 2005 وبحضور العماد لحود ورئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة عمر كرامي»، وهو الأمر الذي أقر لاحقاً بقمة بين الأسد وسليمان في نهاية 2008 ووضعه لاحقاً موضوع التنفيذ بإرادة ثنائية. أما آخر اجتماع ل «هيئة المتابعة والتنسيق» فيعود الى عام 1999. وعقدت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية برئاسة رئيس الوزراء محمد ناجي عطري ونظيره اللبناني السابق كرامي في نهاية كانون الثاني (يناير) 2005. كما زار رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي دمشق في 4 أيار (مايو) من العام نفسه قبل زيارة خلفه فؤاد السنيورة في نهاية تموز (يوليو) من العام نفسه. وبحسب معلومات الأمانة العامة في المجلس الأعلى، يرتبط البلدان بنحو 40 اتفاقية بينها 37 اتفاقية مبرمة وثلاث اتفاقيات غير مبرمة. وبين الاتفاقات الثنائية اتفاق قضائي وأربعة محاضر للاجتماعات المتعلقة بالتجارة الحرة بين البلدين. كما يربطهما نحو 86 بروتوكولاً وبرنامجاً تنفيذياً للاتفاقات بين 55 سارية المفعول. وتشمل أيضاً عشرة برامج مجددة و12 برنامجاً أو مذكرة تفاهم في حاجة الى تجديد وتسع مذكرات تفاهم لحالات محددة انتهى العمل بها. وهناك أيضاً اتفاقات ثنائية ترتبط بأطراف ثالثة مثل الاتفاق السياحي السوري - الأردني - اللبناني. الواضح أن الجانب السوري لم يغير في خياراته ورؤيته إزاء قيام علاقات أخوية ومميزة مع لبنان تحترم مصالح شعبي البلدين وتنطلق منها. ضمن هذا السياق، وبمجرد بدء عملية انطلاق العلاقات الثنائية بعد طي صفحة استثنائية في السنوات الخمس الماضية، أجرى الجانب السوري سلسلة من الدراسات على هذه الاتفاقات وبعث ملاحظاته الى الأمانة العامة للمجلس الأعلى الذي أوكلت إليه متابعة تنفيذ بنودها بحسب «معاهدة الأخوة» التي أقرت دستورياً وتشريعياً من مجلسي النواب في البلدين بعد توقيعها من الرئيس الراحل حافظ الأسد واللبناني السابق الياس الهراوي في عام 1991. ونصت «معاهدة الأخوة» على أن الاتفاقات بين البلدين «جزء مكمل» للمعاهدة. استطراداً، من الخطأ الاعتقاد أن العلاقات الديبلوماسية التي بدأت مسيرتها الثنائية بين البلدين في اجتماع المجلس الأعلى في بداية 2005، تتناقض مع المجلس الأعلى. إذ أن هناك تجارب كثيرة بين دول تقيم علاقات ديبلوماسية وترتبط بعلاقات مميزة في أن: الاتحاد الأوروبي، كندا وأميركا، فرنسا وألمانيا. بل أن واقع الحال، أن السفارة والأمانة العامة تكمل بعضهما بعضاً. كما أن «معاهدة الأخوة» التي تمثل المظلة للعلاقات بين البلدين، أقرت في المؤسسات التشريعية والدستورية في البلدين. الخيار الصحيح أن يشكل المجلس الأعلى منصة لتطوير العلاقات وبوتقة لاحتضانها ودينامية دافعة إذا ما نظر إليه في شكل إيجابي للعمل على مأسسة العلاقات وفتح الآفاق واسعة أمامها، في وقت تسير الدول الى التعاون والتكاتف. وخير مثال المجالس الاستراتيجية واللجان العليا المشكلة بين عدد من دول الشرق الأوسط. ولا شك في أن سعي الجانب السوري الى تقديم ملاحظاته على الاتفاقات الموقعة بين البلدين، يدل الى مدى الجدية في بحث مستقبل العلاقات وضرورة التحضير للزيارة المقبلة للحريري والوفد الوزاري المرافق بحيث تشكل نقلة نوعية في العلاقة بين البلدين. كما قيل سابقاً، يجب الذهاب الى المستقبل بدل انتظاره. ويجب صنع المستقبل بدل استيراده. ويتم ذلك: أولاً، التحضير الجيد للاجتماع المقبل بين حكومتي البلدين بحيث لا تكون زيارة الحريري بروتوكولية بل زيارة إنتاج وعمل لتكون نقطة انعطاف. ثانياً، أن يحسم السياسيون اللبنانيون رؤيتهم للعلاقة مع سورية الجارة والعمق ب «غربلة» فعلية للخيارات والتحالفات. ثالثاً، النظر الى العلاقة ب «سلة متكاملة» للعلاقات. هذا لا يتم ببحث ملف من دون آخر. لا بالتركيز على مسألة وإهمال أخرى، بل ب «سلة» تشمل جميع المجالات. ومن الضروري التوصل الى رؤية تأخذ خيارات استراتيجية في المنطقة: الموقف - العداء من إسرائيل، المقاومة، العروبة، المخاطر الأمنية، المفاوضات ومتطلبات السلام الشامل. ضمن هذا السياق، هناك واجب بعزل قوى تقف في موقف العداء مع المقاومة وعدم وضوح الموقف من العدو التاريخي للعرب. وعندما يتعلق الأمر بإسرائيل، لا يمكن أخذ نصف موقف من الاحتلال. كما أن السنوات الأخيرة شهدت تغييرات سياسية كبيرة في المنطقة. هناك مجلس أعلى استراتيجي بين سورية وتركيا التي تتخذ موقفاً مهماً من إسرائيل وجرائمها. وعلاقات متينة بين سورية وإيران المستمرة في موقفها الداعم للمقاومة. وهناك أيضاً انفتاح تركي على لبنان وإلغاء لتأشيرات الدخول. أي هناك بعد إقليمي للعلاقة الثنائية بين دمشق وبيروت. اقتصادياً، هناك ضرورة أن تؤخذ في الاعتبار التطورات الحاصلة في البنية الاقتصادية للبلدين ومدى تأثر كل منهما بالأزمة العالمية. الاقتصاد السوري اليوم غير ما كان قبل بضع سنوات. عملية الإصلاح لم تترسخ فحسب، بل انها تعطي ثمارها الاقتصادية الواضحة. كان في سورية اقتصاد مركزي التخطيط. بات فيها الآن «اقتصاد السوق الاجتماعي». نظام مصرفي قوي، قلل أو ربما أنهى الاعتماد على أي نظام مصرفي خارجي. كما دخل القطاع الخاص للاستثمار في قطاعات استراتيجية. في النفط والغاز والطاقة والاسمنت. والصناعة السياحية التي تتطور خدماتها لتكون منافسة في المنطقة. سورية لا تمثل فرصاً استثمارية وسوقاً كبيرة تضم نحو 23 مليوناً فحسب، بل أن هناك رؤية استراتيجية ترمي الى جعلها في المدى المنظور قطباً اقتصادياً إقليمياً ونقطة ربط لخطوط النفط والغاز والنقل والطاقة بين العراق كسوق للبضائع ومصدر للطاقة والبحر الأبيض المتوسط وبين الخليج وتركيا الى أوروبا. هذه المعطيات و «تميز» العلاقات وضرورة المجلس الأعلى، لا يمكن أن يتجاهلها من يفكر بالمصلحة الطبيعية والحقيقية للبنان. من هنا، تأتي ضرورة أن تزاوج الرؤية المستقبلة للعلاقة السورية - اللبنانية بين مبادئ سياسية من القضايا الاستراتيجية وبين مصالح اقتصادية وضرورة تعزيز نقاط القوة الموجودة ومراجعة نقاط الضعف لتجاوزها وتكيف الاتفاقات الاقتصادية مع المتغيرات الحاصلة في المنطقة وفي البلدين. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»