يصفها بعضهم بأنّها «لعبة القط والفأر». ويرى آخرون أن كلمة السر تكمن في العنكبوت وخيوطه. ويرجح فريق ثالث أن يكون الحسم من نصيب ال «هاكرز»، سواء كانوا تحت غطاء رسمي سيادي، أو رداء حقوقي ناشط، أو حتى عابري سبيل على الشبكة العنكبوتية. في الأحوال كلها، يكمن جانب كبير من تلك المعركة ضد «داعش»، بل ربما معظمها، في ساحة الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتيّة، على رغم تجاهل الساسة ذلك الأمر غالباً. وفي ذلك العالم الموازي، لا تكون اليد العليا للاقتصادات الأعتى أو السياسات الأحكم أو حتى الأنظمة الأقوى، بل يعقد لواء الفوز للفئران المختبئة والذئاب المنفردة والقطط البريّة، وهي تباغت الجميع بهجمات مفاجئة لا تفتقد للفعاليّة أبداً. «غوغل» والحريات أغلب الظن أنه عندما خرجت «غوغل» إلى النور في أيلول (سبتمبر) 1998 لم يكن في بالها أن تتحول أداة للوصول إلى تنظيمات الإرهاب والانضمام إليها. وقبل أيام قليلة، بدا غريباً نسبيّاً أن يطلب مدير شركة «غوغل» إيريك شميدت، من شركات التكنولوجيا أن تعمل على ابتكار أداة لصد الإرهاب على الشبكة، كمراقبة عبارات الحقد والتأكد من إزالتها. ولا يعني ذلك أن الرقابة والحذف كانا قبل ذلك التصريح، موبقات غرائبيّة لا يسمح بطرحها من الأصل، بل إنّ ذلك الطلب الصادر عن مدير «غوغل» جاء متأخراً تماماً. وفي مقال كتبه شميدت ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، ورد أنّ التنقيّة الآلية لما يكتب على الإنترنت من خطابات التطرف وأشرطة الفيديو المشكوك في دعمها للإرهاب، هي «أمر من شأنه أن يخفّف التوتّر على مواقع التواصل الاجتماعي». وجاء في المقال أيضاً أنّه «علينا صُنع أدوات للمساعدة في تخفيف التوتر على مواقع التواصل الاجتماعي، كمراقبة العبارات التي فيها حقد وتحرش... علينا أن نستهدف حسابات مجموعات الإرهاب ك «تنظيم الدولة الإسلاميّة»، ونزيل أشرطة الفيديو (التي يبثّها ذلك التنظيم) قبل انتشارها، إضافة إلى مساعدة الذين يكافحون أصوات الإرهاب». وحذّر شميدت أيضاً من خطورة عدم تنبّه الحكومات والمواطنين وشركات التكنولوجيا، لتلك الظاهرة، تحت طائلة أن «يصبح الإنترنت وسيلة لتفكيك المجتمعات الهشّة، وتعزيز سلطة الشخص الخطأ والصوت الخطأ». وعلى رغم أن شميدت لم يشر إلى أن ذلك يمثّل تماماً مسارات مؤلمة في عدد من دول الشرق الأوسط، إلا أن بعض المتابعين اعتبر تلك الكلمات اعترافاً (أو ربما اعتقاداً يرين على ذهن شميدت الذي زار الشرق الأوسط مراراً، وعرف بلدانه عن كثب) بقدرة الإنترنت على تهشيم الدول الهشّة، حتى لو كانت تبدو على شيء كثير من التماسك. دول هشّة سواء كان ذلك هو ما حدث فعليّاً في عدد من دول الشرق الأوسط تحديداً، أو أن كلمات شميدت تشمل دولاً اخرى خارج تلك المنطقة تعاني من الفوضى حاضراً، يشكّل ضلوع الإنترنت واستخدامها في شكل مكثف من قبل «داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية، سمّة بارزة في ملامح العام ال 15 من الألفية الثالثة. واستطراداً، ثار جدال عميم حول مسألة الرقابة العنكبوتية على الظواهر الأيديولوجيّة التي يقع كثير منها ضمن الدائرة الواسعة لحرية التعبير عن الرأي. وفي العام 2011، عندما اتّضحت شرارة «ثورة 25 يناير» التي كانت تلقب ب «ثورة الفايسبوك» في إشارة إلى اعتماد جزء من فعاليّاتها لموقع «فايسبوك»، دعا مناهضي تلك الثورة حينذآك، إلى حجب موقع «فايسبوك» أو «إغلاقه»، أو حتى إغلاق الإنترنت كليّاً، إذا تعذّر وقف النشطاء السياسيّين على صفحات «فايسبوك». في ذلك الوقت، قوبلت تلك الدعوات بموجات من الردود التي تراوحت بين تهمة معاداة «ثورة العيش والحرية والعدالة الاجتماعيّة»، والوقوع في قصر النظر باعتبار أن الرقابة والشبكة العنكبوتية لفظان متناقضان، وفق تلك الوجهة من التفكير. ومن المستطاع التأمّل حاضراً في تلك الأمور، بعد رواج الدعوات الغربيّة إلى الرقابة على الإنترنت. واستدراكاً، يجدر الخوض في ذلك النقاش بعيداً من التغيّرات التي طرأت على قطاع عريض من المواطنين المصريّين ممن آمنوا بقدرة الإنترنت على التغيير والإطاحة بالفساد والديكتاتورية ثم عادوا ليقارنوا بين السيّء الذي أطيح به والأسوأ الذي حل محله. وحاضراً، ثمة صوت يتردّد في صفوف أولئك المواطنين يشير إلى أنّهم باتوا في قرارة ذواتهم، يتمنون لو حُجِب «فايسبوك» أو فُرِضَت رقابة على تغريدات «تويتر». وبعيداً من كل ذلك، هناك من يطرح سؤالاً أساسيّاً عن مسألة الرقابة على الإنترنت، في ظل القبول الواسع لفرض أشكال منها في دول الغرب، على رغم أن تلك الدول هي التي ابتكرت الإنترنت، إضافة إلى سجلّها سابقاً في الدفاع المستميت عن الحريّات في الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتيّة. إذاً، ليس غريباً رؤية من يضرب كفّاً بكف استهجاناً، ويردّد القول المأثور «سبحان مغير الأحوال»! إذ لا تشعر شركات الإنترنت الكبرى بالارتياح حين تجد ذاتها مطالبة بتطبيق أشكال الرقابة أو الحذف، باستثناء المواد التي تندرج تحت بند الحضّ على الكراهية والعنف، خصوصاً ما يتعلق بالعرق أو النوع أو الدين. وكذلك لم يتبدّل نهج السياسات الغربيّة في ذلك الشأن، بمعنى تأييدها المطلق للحقوق والحريات والقدرة على التعبير، إضافة إلى النظر الى الإنترنت بوصفها من أبرز وسائل تمكين وتفعيل قوى التغيير في الدول التي تعاني ظلماً أو قمعاً أو فساداً. وما الحروب السياسيّة والكلاميّة بين دول كأميركا والصين في ما يتعلق بحرية الإنترنت وعدم حجب مواقع أو إغلاق حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، سوى أمثلة قليلة ضمن عشرات مماثلة عن التزام الغرب الدفاع عن تلك الحريّات.