فتح رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس الذي يحارب على جبهات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتتنازع حزبه الخلافات وتنهشه التصدعات، جبهة مواجهة جديدة بإعلانه الحرب ضد جماعات الأوليغارشية التي تسيطر على أموال مؤسسات الميديا الحكومية وفي مقدمها محطة التلفزيون الرسمية التي كان رئيس الحكومة اليمينية السابقة أنطونيوس سماراس أغلقها، وسرح العاملين فيها من صحافيين وإداريين بعدما اكتشف أنها وقعت غنيمة سهلة بأيدي هذه الجماعات التي تستنزف منذ عقود تخصيصاتها ومواردها المالية التي تصل إلى عشرات ملايين اليورو، ما أفشل الخطط الرسمية الرامية إلى تأسيس محطة تلفزيونية محايدة تمولها الدولة على نمط «بي بي سي» بعيدة عن تدخلات الحكومة والأحزاب السياسية ، ولكن تسيبراس بعد فوز حزبه سيريزا في الانتخابات العامة أعاد إلى العمل صحافييها وإدارييها بعد أن عوضهم عما تكبدوه من خسائر مالية تنفيذاً لأحد وعوده الانتخابية، وفي جعبته خطة أوسع وأكثر جدية لإصلاح أوضاع الميديا في البلاد. وكانت حكومة تسيبراس طلبت من البرلمان المصادقة على تعديلات تشريعية على قانون الصحافة والطباعة بغية إعادة الروح والنشاط إلى المحطة الحكومية التي تخلفت مقارنة بالمحطات الخاصة لجهة جذب المشاهدين والإعلانات وتقديم التحليلات الموضوعية والأخبار الموثوقة، ووضع حد لاستنزاف موارد الدولة من جانب محطات التلفزة الخاصة. التركيز في هذه التعديلات التشريعية جرى في شكل خاص على تلك البنود التي كانت تتيح لهذه القوى والجماعات الحصول على حقوق البث التلفزيوني من دون تنافس في مسابقات علنية للحصول على الامتيازات الرسمية ما يسبب خسائر مالية باهظة للدولة نجمت عن عدم دفع الأموال والرسوم اللازمة للحصول على حق البث التلفزيوني. اليونان كانت قبل إصدار هذه التشريعات الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تقدم حقوق وامتيازات البث التلفزيوني مجاناً وفي توافق وانسجام مع شكل الوضع السياسي في البلاد، وتوازن المصالح بين القوى السياسية المتنفذة. ضربة في الصميم تقضي التعديلات بفرض نظام خاص للترشح للحصول على امتياز وحق البث لعشر سنوات فقط لمحطات التلفزة الخاصة بعد كان مفتوحاً ومن دون سقف زمني، لينتهي بذلك وإلى الأبد العمل بصياغة تنص على منح ما سمي «الامتياز الموقت» في تعارض تام مع منظومة القوانين الوطنية والقوانين الأوروبية. هذه المحطات استخدمتها الأوليغارشية لاكتساب النفوذ ومواقع التأثير وممارسة الضغوط على المسؤولين في الدولة والأحزاب السياسية، وتحويلها إلى لوبيات تخدم مصالحهم الاقتصادية والمالية، وتسهيل وصولهم إلى الصفقات الكبرى التي تمولها الحكومة من الموازنة العامة ومن الصناديق الاستثمارية الأوروبية في قطاعات اقتصادية ومالية هامة مختلفة. شنت حكومة تسيبراس الأولى منذ استلامها مهامها في أوائل شباط (فبراير) الماضي حرباً لا هوادة ضد هذه الظاهرة، ولكنها بعد الاستفتاء الذي أجري حول الخطة الإنقاذية التي اقترحتها مجموعة الدائنين لمواجهة الأزمة المالية التي وضعت البلاد على حافة الإفلاس، واجهت أوضاعاً ناشئة حجمت من قدراتها إلى درجة أن نتائج هذه الحرب اقتصرت على قيام جهاز الرقابة على الميديا بالاشتراك مع اتحاد الصحافيين اليونانيين بإجراء تحقيقات وتحريات شكلية لمحطات التلفزة الخاصة التي واجهت اتهامات بالتلاعب المتعمد بالرأي العام في ما يخص نداء حكومة سيريزا بالتصويت ضد هذه الخطة ب «لا». وقال نائب رئيس الحكومة يانيس دراغاساكس في استجواب أمام البرلمان «إن إنجاز التغيير المطلوب يعتمد قبل كل شيء على تحقيق ثلاثة أشياء محددة هي: تبديل شامل وجذري للمنظومة السياسية الراهنة في البلاد، وللنظام المصرفي ولنموذج العمل». سيريزا، حزب اليسار الراديكالي الذي يناصب الأوليغارشية العداء، جعل من تجريدهم سلاح الميديا أولوية أهدافه ونجح في معركته الأولى بتمريره التعديلات على قانون الصحافة الذي ستدخل بنوده المعدلة والجديدة حيز التنفيذ خلال العام المقبل 2016. وهي حددت الآليات التي ستتبع عند التنافس على امتياز وحق البث التلفزيوني، والفترة التي سيستغرقها البث، والظروف الناشئة التي ستفرض إلغاء هذه الامتيازات. الامتيازات وفقاً للقانون المعدل ستمنح لفترة عشر سنوات فقط، وبعد مسابقة تنافسية علنية بين كل من يرغب في تأسي محطة تلفزيونية. كما وسيكون لكل امتياز حد أدنى من الرسوم والضرائب، وسيتحتم على المرشحين للحصول على امتياز محطة تلفزيونية لديها تغطية على المستوى الوطني، أن يكون الحد الأدنى لرأسمال شركاتهم أو مؤسساتهم ما بين 2 و8 ملايين يورو، وأن يكون عدد العاملين في المحطة الجديدة بعقود عمل دائمة ما بين 50 و400 صحافي وموظف. ويلزم القانون المحطات الإخبارية دفع مبالغ أعلى للحصول على الامتياز الذي سيحدد قيمته الأولية والأساسية وزيرا المالية والاتصالات. استثنى القانون من التنافس على الامتيازات الشركات التي لديها تسهيلات ضرائبية، أو تلك التي تنفذ مشاريع وبرامج حكومية كبرى، ما يتيح للسلطات تقويض إمكاناتها ومحاولاتها استخدام المحطات التلفزيونية التي تمتلكها لممارسة الضغوط على الحكومة لمنحها مشاريع جديدة تمول من الأموال العامة. ماراثون تنافسي غامض لا تتوافر معطيات وبيانات رسمية محددة عن عدد المرشحين للحصول على امتياز البث التلفزيوني لعشر سنوات فقط بعد نفاذ القانون. ونقلت جريدة (Wall Street Journal) عن موظفين رسميين قولهم إن «هذا سيعتمد على نوعية العروض المقدمة» مرجحين «انخفاض عدد القنوات التلفزيونية الثمانية الوطنية التي تبث الآن بعد الانتهاء من إجراء الماراثون التنافسي على حقوق البث والامتيازات». مالكو الشركات الكبرى أطلقوا محطاتهم التلفزيونية منذ الصيف الماضي لشن أوسع وأكبر حملة انتقادات ضد حكومة سيريزا، وللترويج لأفكار تتهم الحزب الحاكم بالسعي لاعادة رسم الخريطة التلفزيونية في البلاد بما يخدم مصالحه الحزبية، وردت الحكومة بأنها لم تبدأ أي حرب ضد وسائل الإعلام المرئية، بل هي ذاتها التي شرعت فيها لردع السلطة المنتخبة عن قراراتها الرامية إلى حماية المال العام، وإرغام مالكي هذه المحطات على دفع مبالغ تتناسب مع ما يقومون به من أعمال ونشاطات في إطار القوانين والتشريعات، ووضع حد لتدخل الأحزاب السياسية وداعميها الأوليغارشيين في الميديا الوطنية وتوجيهها في مسارات لا تخدم المجتمع والدولة. ودخلت أحزاب المعارضة إلى دائرة موجهي الانتقادات والاتهامات للحكومة، وقال نوابها في البرلمان إن القانون يمنح وزير الاتصالات نيكوس باباس الأكثر قرباً من تسيبراس، سلطات وصلاحيات كبيرة في عملية منح الامتيازات. وتساءل زعيم حزب (To Potami) حزب «النهر» من وسط اليسار المؤيد لأوروبا ستافراس تيودوراكيس «كيف سيكون بمقدوركم مكافحة الفساد مع منحكم سلطات مطلقة لوزير يتحكم وحده بمصائر محطات التلفزة الخاصة». ردود غاضبة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تسبح في مياهها اليونان منذ سنوات واحتدمت خلال العام الأخير، تزحلقت آثارها وانعكاساتها إلى محطات التلفزة الخاصة التي اضطرت بعد تراكم ديونها لدى المصارف، وقلة مواردها المالية بسبب انعدام الإعلانات والتمويلات الإضافية إلى تسريح العديد من الصحافيين والعاملين فيها، كما أنها لم تعد جذابة حتى للمستثمرين مثلما كانت عليه قبل سنوات. ووفقاً لبيانات أصدرها أكبر اتحاد للصحافيين اليونانيين (ESIEA) فإن عدد الذين فقدوا أعمالهم من الصحافيين في الفترة إلى حزيران (يونيو) الماضي بلغ 1000 من أصل 5800 من أعضائه، بعدما بلغ 343 عضو فقط قبل 5 سنوات». في بيان أصدرته منظمة محطات التلفزة التجارية في أوروبا (ACT) وصفت القانون بأنه «يمثل انتهاكاً صارخاً لضوابط هذا النشاط في الاتحاد الأوروبي». وفي السياق نفسه أعربت روابط تضم عشرات محطات التلفزة في أكثر من 40 دولة في العالم عن «قلقها البالغ من أن تؤدي الضوابط الجديدة إلى الإضرار بالميديا التلفزيونية عبر فرضها نهجاً خاطئاً للغاية عند منح الامتيازات لمحطات التلفزيون الخاصة». إلا أن الانطباع المجتمعي السائد في اليونان حيال الميديا الناشطة في البلاد يتصف بالسلبية والانزعاج الصارخ في شكل عام ومن محطات التلفزة الخاصة في شكل خاص، وتعكس استطلاعات الرأي ظاهرة متنامية من انعدام الثقة بما تقدمه هذه الميديا من برامج سياسية يرى الخبراء أنها تتميز بغياب كامل للموضوعية عند تحليل الأحداث والتطورات السياسية الداخلية والخارجية.