أيام شكسبير كانت هناك مسرحيّة كاتب الإنكليز الأكبر عن ملكة مصر الاسكندرانية كليوباترا. وفي القرن العشرين كانت هناك مسرحيّة جورج برنارد شو عن السيّدة نفسها، وعلى خطى هذين سار الشاعر الكبير أحمد شوقي فكتب مسرحيّته الشعرية الكبيرة «مصرع كليوباترا». لكن هذا لم يكن كل شيء، كما نعرف، إذ على مدى قرون عدّة من الزمن لم يتوقّف الشعراء وكتَّاب المسرح والموسيقيّون والروائيّون والرسّامون، عن الاهتمام بكليوباترا. وإذا كان المشروع السينمائي الكبير الذي حقق عنها أوائل ستينات القرن العشرين بتوقيع المخرج جوزف مانكفتش، قد أخفق في اجتذاب الجمهور، ناسفاً في الوقت نفسه مسار المخرج الفني، ومسار بطلة الفيلم إليزابيث تايلور، فالذنب ليس ذنب الملكة المصريّة. إذ إنّ كل متابع لتاريخ الفن يعرف أنّ النجاح كان دائماً من نصيب أي عمل يروي حكايتها. من هنا نترك تحليل أسباب فشل الفيلم الضخم الذي كان عند تحقيقه يعد بالكثير، لننتقل إلى موضوع مختلف محوره السؤال: متى بدأ حقاً، اهتمام الفنون الجادّة بكليوباترا؟ متى بدأت تلك المسيرة التي كان عمل شكسبير، ثم سلسلة الأعمال التي ستشمل إنجازات ثيوفيل غوتييه وهكتور برليوز وعشرات غيرهم؟ ليس مع صاحب «هاملت» و «روميو وجولييت» بكل تأكيد. ذلك أننا نعرف أنّ شكسبير لم يستقِ موضوعه من التاريخ مباشرة، بل من أعمال فنّية سبقته. والمؤرّخون حين يذكرون هذا بوصفه مسلّمة، يتوقفون دائماً عند ما يعتبرونه العمل التراجيدي الأوّل الذي تناول، مسرحيّاً حياة - أو جزءاً من حياة - كليوباترا. وهذا العمل هو «كليوباترا أسيرة» للكاتب شبه المنسي في أيامنا هذه اتيان جوديل. ومع هذا لا تُعتبر هذه المسرحية أوّل عمل حقيقي عن كليوباترا، بل تُعتبر أيضاً أوّل عمل تراجيدي كبير ينتمي إلى عصر النهضة. ففي العام الذي قدَّم فيه جوديل، أول عرض لمسرحيّته هذه، أيّ عام 1552، اعتبر العمل من قِبَل النقّاد والمؤرخين، الإرهاص الحقيقي - إنما «المتردّد» بعض الشيء - بمجيء زمن تراجيدي جديد، والخلاصة الواضحة لكل ما كان الفن المسرحي قد حقّقه في العقود السابقة على ذلك العام. ومن هنا تتّخذ مسرحيّة « كليوباترا اسيرة» أهميّتها المزدوجة، من ناحية كعمل مؤسّس لتقاليد فنّية كانت ملكة مصر بطلتها، ومن ناحية ثانية كعمل انعطافي بين إرهاصات النهضة الفكريّة الإنسانية، وما آلت إليه تلك النهضة لاحقاً. والحقيقة أنّ هذا كله كان من حظ كليوباترا، إذ ارتبط التاريخ الإنساني والفكر النهضوي، ناهيك بفنّ كتابة مسرحيّات السيرة، باسمها. وفي يقيننا انه لولا تلك اللحظة الانعطافية لما عرفت سيرة كليوباترا، ذلك الرصد الفني اللافت، إذ إنها تُعتبر بين عشر أو أقل من شخصيات تاريخيّة عالميّة، وجَّه الفن دائماً اهتمامه نحوها أكثر ممّا وجَّهه نحو أي شخص آخر، ما يضع كليوباترا في صف واحد مع يوليوس قيصر - وليس هذا صدفة هنا - ومع نابوليون والاسكندر وغيرهم. مهما يكن فإنّ التاريخ سيقول لنا دائماً إنّ كليوباترا لم تكن أقل من هؤلاء. لكنّ المشكلة لا تكمن فيما يقوله التاريخ، بل فيما يفضّله الفنانون - وجمهورهم - عادة من توجيه الاهتمام صوب رجال التاريخ أكثر من توجيهه صوب نسائه. وصوب المنتصرين أكثر بكثير مما صوب المهزومين، وصوب الغربيين أكثر مما صوب الشرقيين. منذ البداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أحداث هذه المسرحيّة الفجائعيّة تدور مباشرة بعد موت انطونيوس وانتصار اوكتافيوس. كما ان لا بد من الإشارة كذلك إلى أنّ صيغة هذا العمل تبدو أقرب إلى النص الحواري، منها إلى العمل المبني بنية مسرحيّة حقيقيّة. عند بداية الفصل الأوّل، إذاً، تطالعنا مجموعة من الشابّات المصريّات وهنّ يروين، ككورس في اوراتوريو، ما حدث، معبّرات عن حزنهن العميق ازاء الذلّ والهوان اللذين طاولا كليوباترا. وهنا وسط هذا النحيب يظهر ظل انطونيوس الذي يتنبّأ أمام هذا الجمع الشعبي بأنّ الأمور سوف تتفاقم خلال أيام مقبلة سوف تكون، حتى، «أسوأ من هذه الأيام بكثير». وعلى هذا النذير ينتهي الفصل الأوّل ليبدأ الفصل الثاني الذي هو عبارة عن حوار ثنائي يدور بين اوكتافيوس وأغريبا، وفيه إذ يعلّق هذا الأخير على الأحداث الراهنة التي كان كورس المصريّات قد رواها لنا، لا يفوته أن يجد عظمة روما وانتصاراتها، معلناً أنها الامبراطورية التي لن تغيب عنها الشمس والتي لن يُقدَّر أن تصاب بأيّة هزيمة في المستقبل. وعلى رغم قلقه لا يجد اوكتافيوس نفسه إلا موافقاً على هذا الكلام، فهو بدوره لا يمكنه أن يرى روما إلا منتصرة. وإذ يختتم اوكتافيوس هذا الجزء من المسرحية، ننتقل إلى كليوباترا نفسها، التي تظهر هنا محاطة بالكورس النسائي نفسه لتشكو من أنّ جمالها الذي بدا ذا فاعلية كبيرة مع يوليوس قيصر، كما مع انطونيوس، لم يتمكن من إحداث أي تأثير في اوكتافيوس المنتصر، والذي تخبرنا كليوباترا انه لا يفكّر إلا في روما ومجد روما، غير تارك للحب بارقة أمل في حياته. بل أكثر من هذا: إنّ اوكتافيوس وعد نفسه بأن يظهر كليوباترا، يوم الاحتفال بالنصر، في كامل أبّهتها، ولكن مقيّدة إلى كرسي عرشها فوق عربته. وبعد أن تبدي الملكة هذه الشكوى أمامنا، تنسحب باكية مقهورة مختتمة «حوارها» مع الكورس بالقول إنها، في ازاء هذا الوضع الذي يحزنها والذي لا تفهم سرَّه الغامض، تشعر الآن أنه لم يعد أمامها من مفرّ آخر غير أن تلجأ إلى الانتحار، للتخلّص من عارها ومن هواجسها ومن هزيمتها في آن معاً. وينقلنا قرار كليوباترا هذا إلى الفصل الرابع. ويبدأ هذا الفصل، مثل الفصول السابقة بحوار. لكن الحوار هذه المرّة يدور بين اوكتافيوس وطيف انطونيوس. وخلال الحوار لا يتوقّف هذا الأخير عن لوم اوكتافيوس على تعنّته وقسوته، طالباً منه أن يرأف بتلك الملكة الحسناء بعد أن حقق ما يريد وانتصر عليها. وهنا يردّ اوكتافيوس على انطونيوس بأنّه - أيّ هذا الأخير - تعامل مع الأمور بطيبة فماذا كانت النتيجة؟ إنّ هذه الطيبة لم تجرّ على روما وعلى الشعب سوى الويلات. ومن هنا، يقول اوكتافيوس، ليس من شيم الحكم الصحيح أن يبدي طيبة، بل قوّة، وانّ العقل السياسي يجب ألّا يتوقف عند منتصف الطريق آخذاً في حسبانه مشاعر الشفقة والتعاطف. فهذه المشاعر هي المقتل الحقيقي لكل سياسة، وهي السبيل الدائم للفشل. وينتهي هذا الحوار من دون أن ينال أيّ من الصديقين السابقين موافقة الآخر، لكنه - أي الحوار - يكون قد وضعنا على تماسّ مباشر بما يفكّر به اوكتافيوس، وبالطريقة التي سوف تكون عليها الأمور من الآن وصاعداً: أمور السياسة التي يجب ألّا تختلط بأمور الحب والمشاعر. وعلى هذا ينتهي الفصل الرابع، ليَلِيه الفصل الخامس والأخير. واللافت هنا هو أن ليس ثمّة على المسرح في هذا الفصل أيّة شخصيّة معروفة من شخصيّات المسرحيّة. إنّ الكورس وحده هو الذي يحتلّ الساحة هنا، وقد جاء ليبكي ويشكو من المصير البائس الذي حملته الأقدار، وعناد اوكتافيوس المنتصر، لتلك المرأة والملكة التي كانت ذات جاه وقوَّة. في شكل عام، لم تعتبر هذه المسرحيّة تحفة فنّية في أي حال من الأحوال. فموضوعها شديد العادية ويكاد يكون سردياً خطياً للحدث التاريخي من دون أية أبعاد أو أعماق، وأسلوبها بسيط مدرسي. ومع هذا حازت مسرحية اتيان جوديل هذه قيمتها من أنها كانت «أوّل مسرحيّة أوروبيّة تخوض هذا النوع من مسرحة التاريخ»، كما كانت من أوائل الأعمال التمثيلية التي قدّمت على المسرح شخصيّات حقيقيّة. اتيان جوديل (1532 - 1573) الذي وُلِدَ في باريس ومات فيها، عُرِف كشاعر وكاتب مسرحي مؤسِّس، وخصوصاً من خلال مسرحيته هذه التي صاغها شعراً بدا فيه متأثّراً بقوّة بأعمال الروماني سينيكا، ما جعله يمثّل لحظة في تاريخ الانتقال من الأدب الروماني إلى الأدب الأوروبي الحديث، إذ سرعان ما سار على نهجه كثر من الكتّاب خلال العقود التي تلت تقديم « كليوباترا اسيرة». والحقيقة أنّ النجاح الكبير الذي حققته هذه المسرحيّة دفع جوديل إلى أن يجرب حظّه مرّة أخرى في مسرحية «شرقية» البطلة أيضاً هي «ديدون تضحّي بنفسها» (1574) عن فصل يروي نهاية ملكة قرطاجة الفينيقية الشهيرة، ولكن ضمن اطر سيكولوجية هذه المرّة. وجوديل مات باكراً، إذ بالكاد كان حين وفاته تجاوز الحادية والأربعين من عمره. وهو بعد نسيان، عاد إلى الذاكرة بفضل ريادته، لا بفضل جودة نصوصه. [email protected]