معالجة الأزمات المستعصية تحتاج إلى خيال خلاق تجترح معه الإمكانات التي تسفر عن إطلاق مبادرات خارقة، يمكن أن تتركّب معها حلول متوازنة أو تترجم إلى تسويات بنّاءة. والحل يأتي دوماً من حيث لا نتوقع ولا نحتسب، لكي يغير المعادلات ويخربط الحسابات. هذا ما جرى لحلّ أزمة الشغور الرئاسي في لبنان: طرح اسم رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية مرشحاً جدياً لرئاسة الجمهورية. وفرنجية، كما هو معروف، هو أحد أقطاب فريق 8 آذار، وصديق النظام السوري. والمفاجئ، وربما الصادم، أن هذه المبادرة أتت من رئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، زعيم «تيار المستقبل»، والقطب الأبرز في فريق 14 آذار، وكان من الطبيعي أن تُحدِث المبادرة الإرباك والإحراج في صفوف المعسكَرَيْن المتقابلَيْن. فهي شكّلت صدمة للجنرال عون، رئيس التيار الوطني الحر، والقطب المسيحي الأبرز في فريق 8 آذار، كونه المرشح الوحيد للرئاسة، من لدن أركان فريقه، بمن فيهم فرنجية. ولذا كانت استجابة هذا الأخير لمبادرة الحريري، أشبه بطعنة وجّهها للجنرال. هذا مع أن فرنجية لا ينفك يؤكد أنه باقٍ وعون في فريق واحد، وأنه ما زال يدعم ترشيحه. ولكن لا شيء يمنعه من الترشح بدلاً من عون، إذا كانت حظوظ هذا الأخير للوصول إلى الرئاسة أصبحت ضئيلة أو معدومة. وهذا الموقف لا يقنع عون، لأن مطلوبه أن يبقى المرشح الوحيد، وأن يستمر فرنجية في دعمه، من دون «لكن»، أي من دون شروط. من هنا فإن المبادرة كسرت الودّ بين الرجلين بعد الاختلاف في الهوى، على رغم الكلام الظاهر على الخط الجامع. ولن تعود الأمور بينهما إلى ما كانت عليه كما يحلم الكثيرون. ولا شك في أن المبادرة ستشكل إحراجاً ل «حزب الله»، إذ تضعه بين خيارين أحلاهما مرّ: تفضيل أحد حليفيه على الآخر. ومعلوم أن الحزب قد تبنّى ترشيح عون منذ شغور المنصب الأول. وكان بعض قادته يهدّدون الفريق الآخر برفع الصوت والأيدي عالياً: إما عون أو لا رئيس للجمهورية. ولهذا التبنّي أسبابه: فالجنرال عون قدّم تغطية مارونية ل «حزب الله»، كان بأمسّ الحاجة إليها في سياساته وتدخلاته وحروبه الإقليمية. صراع الحلفاء ومع ذلك فإن موقف «حزب الله» ملتبس. وأنا أشكّ في أن يكون الحزب راغباً في مجيء عون إلى سدّة الرئاسة. والسبب ليس فقط لأن الجنرال عصبي المزاج وصعب المراس، بل لأنه يمكن أن يغير نهجه وسياسته. فهو الآن، وقبل وصوله إلى الرئاسة، يقف مع الحزب في كل مشاريعه وطروحاته، وإن كان غير مقتنع بها، بل هو يحاول دوماً أن يقدم للحزب المبرّرات والذرائع. بعد الرئاسة قد يتغير الموقف، إذ لا يعود عون بحاجة إلى «حزب الله»، لأنه يكون قد حقق حلم حياته. وهذه حال «حزب الله»، بعد أن تغيرت الظروف على الساحة الإقليمية: لم يعد بحاجة إلى تغطية مسيحية من الجنرال لمغامراته غير المحسوبة، التي أفضت إلى حروبٍ أهلية أعادت المجتمعات العربية إلى حال هو أسوأ بكثير مما كانت عليه في عهود الاستعمار، مما جعل شعارات الحزب حول مقاومة إسرائيل والاستكبار العالمي، مستهلكة، إن لم تكن خادعة ومضلّلة. وإذا كانت هذه الحروب المدمرة قد فضحت المحركات التي تقف وراء استراتيجية الحزب القتالية في سورية وفي غير بلد عربي، والتي لا علاقة لها لا بالمقاومة ولا بالممانعة، فإن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإنقاذ نظام الأسد، بعد خمس سنوات من الدعم الفاشل له من جانب إيران و «حزب الله»، قد سجل نهاية مشروع المقاومة والممانعة. هذا التغير يظهر أثره على مواقف «حزب الله» الذي بدأ يتخلى في خطاباته عن تهم العمالة والخيانة التي كان يلصقها بخصومه السياسيين والأيديولوجيين. وهكذا أصبح الحزب من دعاة التسوية الشاملة. بعد كل هذه الإخفاقات والخسائر الفادحة على الساحة الإقليمية. ولذا فهو لم يعد بحاجة إلى عون، الذي أصبح عبئاً عليه. هو يدعمه لأنه يدرك أنه لن يكون رئيساً، إذ لا إجماع حوله، وربما احترقت ورقته. وقد يتخلى عنه، بعد أن استثمر دعمه إلى الحد الأقصى الذي لا مزيد بعده، سوى ارتداد الحليف على حليفه. وتلك هي عاقبة من يبيع بلده بمنصب أو جاه. بالنسبة إلى رئيس المجلس النيابي، وزعيم «حركة أمل»، نبيه بري، فإنه قطعاً مع المبادرة، لأنه ما كان مرة مع ترشيح الجنرال عون. صحيح أنهما ينتميان إلى كتلة واحدة، ولكن، كلاهما عدوّ للآخر ما من محالفته بدّ. أما وليد جنبلاط، رئيس اللقاء النيابي وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، فإنه أول من تلقف المبادرة. وربما كان على علم بما يطبخ في هذا الخصوص بعيداً من وسائل الإعلام. بدليل أنه، وقبل الاجتماع الثلاثي في باريس، كان جنبلاط قد صرّح بأنه يفضل فرنجية على عون، لأن الأول، وبحسب رأيه، يقول ما يفكر فيه ويريده، أما الثاني فهو يعلن خلاف ما يضمر. وهكذا أخذت المبادرة تفعل فعلها وسط المشهد السياسي، وقد تفضي إلى انفراط العقد بين أقطاب 8 آذار. وأول تباشيره أن عون وفرنجية باتا ندَّيْن متنافسَيْن في ما يخصّ منصب الرئاسة. وهذا ما يجري داخل المعسكر الآخر. فالصقور في 14 آذار لا يريدون فرنجية رئيساً للبنان، وكما يعبر عن وجهة نظرهم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. ولعل رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة هو من هذا الرأي، وصمته هو أبلغ دليل على رفضه المبادرة. وأعتقد أن الشرخ سيزداد داخل هذا الفريق بين المتشددين وبين دعاة التسوية. الشاهد هو التوتر الذي ساد العلاقات، على مستوى القواعد، بين «تيار المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية». ولهذا فإن شعار «14 آذار أولاً» صار من الماضي. هل المبادرة هي صناعة لبنانية أم خارجية؟ لا يهم المصدر ما دام اللبنانيون الفاعلون كلهم لهم ارتباطاتهم بالخارج العربي والإقليمي، في شكل تحالف أو ولاء. ولا شك في أن الذي فكر بالمبادرة هو ذو عقل عملي استراتيجي يحسن فتح الأبواب الموصدة لإيجاد سبل للخروج من المآزق. ففي لبنان يستحيل الحل ما دام كل فريق يتمترس وراء ثوابته المعيقة وشعاراته الجذرية، التي أوصلت البلد إلى حافة الشلل والانهيار، وكما عبر عن ذلك شباب الحراك المدني الذي انفجر، بعد انفجار أزمة النفايات، لكي يفضح الطبقة السياسية ويكشف عجزها وفسادها، وتواطئها ضد مصالح العموم من اللبنانيين. من هنا فإن المبادرة إلى ترشيح فرنجية، سواء تجسّدت في انتخابه أم لا، سوف تسهم في تفكيك المعسكرين، لفتح إمكان جديد يعاد معه رسم القوى السياسية في لبنان. بالطبع سيحاول المحيطون بعون أن يرأبوا الصدع بينه وبين فرنجية بالتهويل والضغط على هذا الأخير، لكي يعود إلى خطه وفريقه ويصطف وراء الجنرال. لكن هؤلاء يتعامون عما حصل من متغيرات جعلت كل الخطوط السياسية والأيديولوجية تتحطم شعاراتها على أرض الواقع. والأهم أن العودة إلى الاصطفاف القديم في أحد المعسكرين، يسد أفق الحل في لبنان. أما بالنسبة إلى النائب فرنجية فلا عودة إلى الوراء. لأنه، قد انشق واستقل. ولن يرجع إلى فريقه مهيض الجناح أو مكسور الجانب. لذا فالفرصة مفتوحة الآن أمامه، فلا ينتظر نضج التسوية لأنها قد تحترق، بل يقدم على اتخاذ قرار جريء يتجسد في مبادرة فذة، رداً على مبادرة الحريري، بحيث يعلن نفسه مرشحاً لرئاسة الجمهورية في مواجهة الجنرال عون أو سواه، بعيداً من الثنائيات الخانقة والتسويات الهشة التي جعلت لبنان ينتقل من مأزق إلى آخر، بقدر ما تعامل كل فريق مع شعاره بوصفه فوق الدولة والوطن والبلد. بذلك يمكن أن تتشكل أكثر من جبهة أو كتلة في ما يخص معركة رئاسة الجمهورية: الأولى تتكون من فرنجية والحريري وجنبلاط. فهل ينضم إليهم بري علناً؟ الثانية تتكون من عون وأصهرته ومن معهم. فهل ينضم جعجع إلى عون أم يقود جبهة ثالثة؟ والسؤال نفسه يطرح بالنسبة إلى حزب الكتائب، فأين سيقف؟ ولا شك أن للمستقلين دورهم، فهل يشكلون كتلة مستقلة أم يتوزعون على بقية الكتل؟ أما «حزب الله» فإنه خرج من مرحلة الانتصارات الخادعة والمستحيلة لكي يحصي خسائره، فهو يخسر في السياسة كما يخسر زهرة شبابه في الميدان. والمهم، أياً كانت الكتل والجبهات، أن يجري العمل على أساس وطني، سياسي، كما تقتضي اللعبة الديموقراطية، وكما كانت تجري الأمور منذ الاستقلال، وهو وضع لم يختلّ، إلا بسبب التدخلات الخارجية العربية والإقليمية، واستجابة اللبنانيين لها. واليوم يبدو أن الخارج قد سئم من اللبنانيين، خصوصاً أن الساحة اللبنانية لم تعد ورقة رابحة، لمن يريد اللعب عليها والاستثمار في تحريك حجارتها على الرُّقعة. هذا المعطى الجديد، كما يتمثل في فشل الانخراط في المشاريع الإقليمية وفي تراجع العوامل الخارجية، أو في توظيفها لحل الأزمة، يشكل حقاً فرصة ثمينة أمام اللبنانيين لبناء صيغة تسهم في تجديد وتطوير النظام الديموقراطي ونموذج العيش المشترك، تحت الشعار الجامع: «لبنان أولاً»، وليس محور المقاومة ولا محور 14 آذار. وهذا لا يتعارض مع العمل العربي المشترك. بالعكس، إن لبنان المستقل والآمن، المستقر والمزدهر، هو ساحة أو واحة يفيد منها كل العرب. أما التشبيح على لبنان، تحت هذا الشعار أو ذاك، من قبل هذا المحور أو سواه، فقد عاد على جميع الدول والأنظمة بأوخم العواقب. وإذا كان الشعار الذي طرحه النائب فرنجية حول «حماية لبنان»، يلقى قبولاً من الجميع، بوصفه أوجب الواجبات، فإن حماية لبنان من الأخطار الخارجية، تبقى هشة، من دون ركيزة داخلية أساسها رعاية مصالح اللبنانيين واحترام حقوقهم، وقوامها حمايتهم من مساوئ السلطة ومفاسدها. ومعلوم أن هذه الآفات قد تضاعفت، خلال سنوات الحرب، بعد أن تشكلت زعامات وقيادات أو مجموعات وعصابات تتعيش على انتهاك الأنظمة والقوانين، وعلى ممارسة التشبيح بكل معانيه الأمنية والمالية والسياسية والاجتماعية. في ضوء هذه القراءة، أرى أن المهمة الأولى التي تقع على عاتق من يصل إلى سدّة الرئاسة، أكان النائب فرنجية أم سواه، هي إعادة الأمور إلى نصابها الشرعي، بالحرص الشديد على احترام الأنظمة، مع العمل بصورة متوازية على تطويرها، لكي تستجيب لما استجدّ من التحولات على مختلف الصعد وفي كل المجالات. وليس للرئيس أن يتذرّع بأن صلاحياته قد تمّ تقليصها، بعد اتفاق الطائف أو الدوحة، أو بسبب قوى الأمر الواقع. فالرئيس يملك قوة رمزية وخلقية لا حدّ لها، في ما يخص الحرص على تطبيق القوانين، إذ بمستطاعه أن يقلب الطاولة في وجه الجميع، لأن الناس سوف تقف معه، لمحاربة كل مخالف أو مفسد، أياً كان شأنه. بهذا المعنى لم تعد المسألة مسألة حصص وضمانات لهذه الطائفة أو تلك، ما دامت الشرائح الواسعة من الشعب اللبناني، على اختلاف انتماءاتها الطائفية، هي الضحية لأعمال الفساد، هدراً ونهباً أو سطواً وتشبيحاً. ولنحسن تشخيص الواقع، فنظام المحاصصة الذي كان شغالاً في ما مضى، بات اليوم عبئاً وعائقاً، ولذا فهو يطيح بكل الحقوق والمكاسب، كما تشهد التجارب المريرة. والمثال البليغ أن الذين هيمنوا على الدولة، بدعم من الخارج، باسم طائفة معينة، أفادوا فقط فئة قليلة من المحاسيب والأنصار، تقع على هامش تلك الطائفة، ولم ينفعوا الشرائح الواسعة منها، ولا في بقية الطوائف. كسر عقلية المحاصصة من هنا الحاجة الماسة إلى كسر الثنائيات الطائفية، لطرح برامج سياسية للإصلاح وإعادة البناء، تتعدى مصالح الطوائف التي تعتدي، أحياناً، على حرية الأفراد، في دولة لها دستور مدني يرعى حقوق الطوائف في ممارسة خصوصياتها الدينية، ولكن تحت سقف الدولة الجامعة لا فوقها، وبالخضوع للقانون الذي يساوي بين المواطنين لا بالقفز فوقه وانتهاكه. إن الثورات والحراكات والحروب التي انفجرت في لبنان وفي أكثر من بلد عربي، تكتب الآن نهاية حقبة سادت فيها مشاريع ومحاور ومعسكرات، من محور الممانعة إلى مشروع الإسلام السياسي، ومن تصدع المعسكرين في 8 و 14 آذار إلى انفضاح نظام المحاصصة الطائفية. ولذا لا تصلح معالجة القضايا وإدارة الشؤون بالعقليات والمفاهيم والطرق التي ساهمت في إنتاجها. لقد شبعنا تشبيحاً على الأفراد وحرياتهم وعلى الدول وقوانينها، باسم الكتب الدينية والنصوص المقدسة. فالهويات والوحدات والجبهات هي خلق وصناعة وتحويل، وهي تركيب وتهجين وتجاوز. بقدر ما هي تبادل مغنٍ وتفاعل مثمر. نحن مجرّد علاقاتنا ونسبنا إلى الآخر وإلى بقية الكائنات. مثل هذه العدّة الفكرية في قراءة وقائع حياتنا ومسائل وجودنا، تتيح كسر منطق التعصّب والتطرّف والعنف، بقدر ما تحرّرنا من خرافة الجذور وسجون الهويّة وديكتاتورية الحقيقة، فضلاً عن عماء القداسة التي تعني نفي العالم أو الجهل بما نفكر فيه ونرغب، أو انتهاك ما ندعو إليه ونرفعه من شعارات. (بيروت في 13/12/2015)