«مواطن يمني: الناس عند خادم الحرمين سواسية كأنهم أمام الخليفة عمر بن الخطاب بحكمه العادل». إنه عنوان طالعتنا به الصحف المحلية، وهو مدخل المقالة بصرف النظر عن خلفيته (ليست موضوعنا). نعم هو ملك صالح، ودائماً ما أردد: محظوظ من شهد عصره وكان مليكه. ولكل حاكم بطانة، وهم مستشاروه وعيونه وحلقة الوصل بينه وبين أمور صعب أن يحصرها أو يطلع عليها بنفسه، بحكم مسؤوليته وقدرته البشرية المحدودة، فمن هؤلاء المخلصون؟! ولن أقول الجنود المجهولين، بل «الجنرالات» الشرفاء، الذين دأبت وطنيتهم إلا أن يعملوا ولا يُعرّفوا... أن ينقلوا للملك صورة بعدسة مكبرة عن البلد بما فيه! وهو تساؤل مغلف بتقدير كبير، ففي كل مرة نسمع فيها خطاباً للملك، أو رؤيته لحدث، يفاجئنا برد فعل يشبهنا. استجابة فيها قول مختلف، ملحقة بتطبيق لن أقول مختلفاً ولكن لم نعتد عليه. صحيح أن للملك رؤيته الخاصة وقراراته الذاتية ونيته الصادقة للتطور والإصلاح، ولكن يبقى في حياة الحاكم هامش الاستشارة والمشاورة، هامش ماذا يحدث على أرض الواقع، ومن يتابع ويقترح وينقل إليه الصوت، وتبقى عظمة القائد في الإنصات بعقل لا يلغي قلباً. جاء في مقالة سمير عطاالله في الزميلة «الشرق الأوسط» نقلاً عن المؤرخ الاجتماعي الكبير علي الوردي قوله: «الحاكم العادل يدرك بعدله، لا بحدسه فقط، أن الحكمة هي في توسيع دائرة الأوفياء لا الخصوم، وأن الذين يصنعون من حوله سوراً إنما يعلون في وجهه جداراً، وهذا ما ليس في طبع العادلين ولا في طبيعة العدل». من شروط تقدم الدولة توجيه القوى الاجتماعية والسياسية والفكرية نحو تحقيق أهداف إيجابية، ومن شروطها أيضاً تجنب الصراع الداخلي، والأدق: الحد منه، ما يعني إحباط مساعي التأليب والتجنيد، مهما كانت طبيعة المنظورات والتناقضات المسيطرة على فئات المجتمع، وهذه هي وظيفة الدعوة إلى الحوار، سواء من أجل إحراج المؤلّبين والتضييق على المناورات، أم من أجل إبقاء الجسور مفتوحة والالتزام بالموقف الوطني الموحد على رغم الاختلافات، فعادة القوى الاجتماعية في أي مجتمع الحفاظ على مصالحها ومواقعها، في مقابل قوى اجتماعية أخرى معارضة هدفها فرض نفسها والاعتراف بما لها أيضاً، وليست نقطة الضعف في هذا التكتل الواسع غياب المصالح الشعبية عنه، فمن تكوينه الجمع بين مختلف الشرائح المجتمعية. الحلقة الأضعف هي في تنافر المطالب والمصالح التي تتجمع في هذا التكتل، ونزولها إلى مستوى التنازع، وهو لا ينفي أحقية قسم كبير من أوراقها، إلا أن مهمة الحكم أن يقوم نظامه على ضمان المصالح الحيوية للجميع تحت مظلة الوطن، وذلك بضمان خلق ووجود مشاريع جدية ومجسدة للطموحات الحقيقية، بقدر ما يحتاج هذا الوجود من حرية تفكير وتفاعل وتعبير، وحرية تنظيم وتقنين وتعايش مشترك، فالجماعات لا تقوم على مشروع واحد يجذب إليه جميع البشر، ولكن إنتاجية المجتمعات وتطورها يكونان باستمرار قيامها بمشاريع جديدة ومتبدلة بحسب التكيف مع الأوضاع والتحديات الداخلية والخارجية معاً. المهم في النهاية أن تكون هناك آلية سليمة للخروج من هذه المشاريع والتصورات المتباينة برؤية جماعية بغالبية شرعية مقبولة، وهذا بالضبط ما أفهمه من توصيات مجلس الوزراء الأخيرة برفع مستوى المعيشة للمواطن السعودي، وتنويع القاعدة الاقتصادية، ومواصلة عمليات الإصلاح بترسيخ مبدأ المساءلة والمكاشفة، مع دعم المؤسسات الإنمائية، وهذا بالضبط ما عنيته بجهود البِطَانة الوطنية الصالحة.