جلست جنيفر، الأستاذة الأميركية الأصل والمقيمة منذ سنوات في لندن، كعادتها كل صباح في «الطابق العلوي» من الباص الذي يقلها إلى مقر عملها في وسط العاصمة البريطانية. وكعادتها، فتحت كتاباً تقرأه في رحلتها اليومية التي لا تستغرق أكثر من 40 دقيقة. لم تكن قلّبت صفحة واحدة عندما صعد شاب في العشرينات من عمره وجلس في المقعد أمامها وأخذ يروي بشغف لصاحبه على الطرف الآخر من هاتفه النقال قصة علاقة حميمية تجمعه برفيقته. كان الشاب يتحدث بالفارسية، لغته الأم. ولم يعرف أن جنيفر، الجالسة أمامه والتي بدأ الشيب يغزو شعرها الذهبي، متزوجة بإيراني وتتحدث الفارسية بطلاقة، فقد عاشت في إيران قبل انتقالها مع زوجها للإقامة والعمل في بريطانيا. صمتت المرأة الأميركية وأغلقت كتابها وأخذت تستمع إلى «مغامرات» الشاب الذي كان يُسهب في شرح أدق التفاصيل. عندما وصلت إلى محطتها، وقفت جنيفر وقالت له بالفارسية إن عليه أن يخجل من تصرفه، ثم انصرفت والدهشة بادية على وجهه. قصة جنيفر والإزعاج الذي سبّبه لها «موبايل» الشاب الإيراني من الأمور التي تتكرر يومياً في دول العالم وليس في بريطانيا فقط. وغالباً ما ينتهي ذلك «الإزعاج» خلال لحظات قليلة ومن دون مشاكل تُذكر. وقد يكون لفت نظر المتحدث إلى أن صوته المرتفع يزعج من حوله كافياً لطي الموضوع. ولكن ثمة حالات أخرى لا تنتهي بسلام، خصوصاً عندما يُصرّ «المزعج» على مواصلة استخدام هاتفه غير عابئ بمن حوله، ومن بين المنزعجين شخص «لا تتحمل أعصابه» أن يُرغم على الاستماع إلى قصة حياة شخص لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه. وللممثل الكوميدي البريطاني ريتشارد هيرينغ قصة طريفة في هذا المجال. فقد كان واحداً ممن «فقدوا أعصابهم» بسبب الهاتف المحمول. كان الكوميدي يؤدي دوره على خشبة المسرح في مهرجان أدنبره الدولي عندما أخذ موبايل إحدى المتفرّجات يرن وسط مقاعد الحضور. مرة، اثنتين، ثلاث... لم يتوقف الهاتف عن الرنين، فنزل ريتشارد من المنصّة وتوجّه إلى صاحبة الهاتف ونزعه من يدها وحطّمه أرضاً. انتظرت صاحبة الهاتف انتهاء العرض لتصعد إلى خشبة المسرح وتطالب الممثل ب 70 جنيهاً استرلينياً ثمن هاتفها. نظر إليها وقال: «لن أعطيك 70 جنيهاً في مقابل هذا (الهاتف)... إنه محطّم!». وربما لو كان ريتشارد يؤدي دوره في بطرسبرغ الروسية، لا في أدنبره الاسكتلدنية، لما كان واجه مثل هذا الإحراج. فقد لاحظ الروس أن التنبيهات المتكررة للمتفرجين إلى ضرورة إقفال هواتفهم النقالة، قبل بدء العروض المسرحية لا تلقى الاستجابة المطلوبة، فلجأوا منذ 2007 إلى تطبيق نظام تشويش على الاتصالات الهاتفية داخل مسارح بطرسبرغ، الأمر الذي يمنع الحضور من استخدام الهواتف تماماً. ويُثير سوء استخدام الهاتف المحمول في الأماكن العامة استياء شريحة واسعة من البريطانيين، بحسب ما تفيد استطلاعات للرأي. فقد أفادت دراسة، أُعدت لمصلحة مؤسسة «تاندي» لبيع الأدوات الكهربائية (المملوكة حالياً لشركة «كارفون ويرهاوس» للهواتف المحمولة)، أن واحداً من بين كل ثلاثة بريطانيين يقول إنه شعر في مرحلة ما من مراحل حياته بالانزعاج بسبب استخدام الهاتف المحمول بقربه، في حين قال واحد فقط من بين كل 25 شخصاً إن استخدام المحمول يجب أن يكون متاحاً في كل مكان. وذكرت الدراسة أن معظم المشاركين – عيّنة من 1000 شخص - يحبّذ حظر استخدام الهاتف المحمول في القطارات والباصات والسيارات، موضحة أن نحو 40 في المئة من هؤلاء يقولون إنهم انزعجوا من استخدام الهاتف المحمول في باص أو قطار، في حين عبّر 20 في المئة عن انزعاجهم من استخدامه في مطعم أو مقهى، وقال واحد من كل أربعة أشخاص إنه تضايق لرؤية شخص يستخدم هاتفه وهو في السيارة (معلوم أن القانون البريطاني يمنع استخدام الهاتف خلال قيادة السيارة، إلا إذا كان الهاتف مجهّزاً بوسائل تعفي من حمله وهو يقود). وعلى رغم الانزعاج الواضح الذي يسببه لبعض الناس «غزو» الهاتف المحمول، بات هذا الجهاز اليوم جزءاً أساسياً من الحياة لا يمكن الاستغناء عنه في الدول المتقدمة وحول العالم، خصوصاً في ظل التطور التكنولوجي الذي يأتي مع كل جيل جديد من الموبايلات (التي بات طبيعياً أن تسمح بتصفح الانترنت والشبكات الاجتماعية الرقمية وغيرها). ولعل مكمن الخطر هنا ليس في انتشار تقنية الهاتف المحمول بقدر ما يكون في ضبط طريقة استخدامها، بحيث تُسهّل حياة الناس بدل أن تتحكم فيها. ويُشار، في هذا الإطار، إلى أن «إدمان» البالغين على استخدام الهاتف المحمول بات ينافسه اليوم «إدمان» الصغار عليه أيضاً، وإن كان هناك فرق واضح بين الأمرين، وهو أن البالغين يُفترض بهم أن يعرفوا اللياقات الاجتماعية التي تصاحب حمل هاتف محمول، بينما صغار السن قد لا يكونون واعين جداً لمثل هذا الأمر. فقد ذكر تقرير نشرته صحيفة «ديلي إكسبرس» البريطانية في آذار (مارس) 2009، نقلاً عن نتائج بحث أعدته مؤسسة «يونغ بول دوت كوم»، أن ملايين الشبان والشابات الصغار في المملكة المتحدة يقضون ما يصل إلى ست ساعات يومياً على هواتفهم. ويقول 81 في المئة من الأطفال البريطانيين إن هواتفهم المحمولة هي أهم شيء في حياتهم، في حين يقول واحد من كل ثلاثة أطفال إنه يشعر ب «الوحدة» من دون هاتفه. وقال قرابة نصف الصغار الذين شملتهم الدراسة (التي شملت أطفالاً تتراوح أعمارهم بين ست سنوات وشباناً تقل أعمارهم عن 17 سنة) إنهم «ناموا مع هاتفهم» في السرير، في حين قال 75 في المئة منهم إنهم يتفحصون موبايلاتهم بمجرد قيامهم من النوم للتأكد من أنهم لم يتلقوا رسالة قصيرة أو اتصالاً هاتفياً.