قليلٌ من الفهم قد يحقق للعرب كثيراً من الإنجاز في إدارة قضاياهم المتفاقمة. وبعضٌ من القراءة والمعرفة قد يكفلان للنخبة العربية فهماً أعمق لتحولات العلاقات الدولية وما يخصّ المنطقة من رذاذها. فلا يُعقل أن تظل عقولنا أسيرة إما لنظرية المؤامرة بكل ما تعكسه من فشل سياسي وثقافي في فهم الواقع، أو نظرية «التفوق الحتمي» التي تفسر التاريخ بطريقة «ما ورائية» تبشّر بحتمية «النصر السرمدي» وإن لم نعمل لتحقيقه. وسأضرب مثلين على هذه الطريقة البائسة في التفكير. الأول يرتبط بالموقف العربي (بخاصة موقف النخب والمعلّقين السياسيين) من الخلاف الراهن بين واشنطن وتل أبيب في شأن بناء المستوطنات في القدسالشرقية، فضلاً عن استئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وهو موقف لم يخرج بعيداً، كما هي العادة، عن المنطق المؤامراتي في التفكير، باعتبار أن هذا الخلاف هو مجرد تمثيلية «أميركية» هدفها دفع العرب بإبقاء الباب مفتوحاً للتفاوض مع إسرائيل، وإيهامهم بأن الولاياتالمتحدة تقف إلى صفهم وتساند حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الموعودة. وهي نظرة لا ترى إلا ما يتوافق مع منطلقاتها العقائدية والأيديولوجية فضلاً عن حساباتها السياسية، وذلك بصرف النظر عما هو حادث فعلاً. وقد خلط أصحابها بين الدعم الأميركي لإسرائيل، والذي لا خلاف عليه، وبين محاولة إدارة أوباما إعادة النظر في كيفية استمرار هذا الدعم ولكن بطريقة قد تقلل من تكلفته السياسية والاستراتيجية التي تؤثر سلباً في المصالح الأميركية في المنطقة. وبصرف النظر عن تفاصيل الخلاف الأميركي – الإسرائيلي، والتي تتزايد مؤشراته تزايداً مضطرداً، سأتوقف فقط عند ثلاث نقاط قد تكشف مجمل الصورة الراهنة للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية، كما تكشف في الوقت نفسه مدى «عقْم» العقل العربي، الرسمي والنخبوي، في فهم هذه الصورة والقدرة على توظيفها لمصلحة قضاياه. أولها، أن الخلاف بين واشنطن وتل أبيب هذه المرة لا يرتبط باختلاف وجهات النظر حول مسألة الاستيطان أو في ما يتعلق بآليات النهج التفاوضي الذي تريد حكومة بنيامين نتانياهو فرضه على الفلسطينيين والعرب. وإنما بالأساس في نظرة كل طرف لمستقبل الصراع وتأثيره في مصالحه المباشرة. فهي المرة الأولى التي تلتفت فيها إدارة أميركية إلى مسألة الربط بين الدعم المطلق لإسرائيل وتداعيات ذلك على المصالح والصورة الأميركية (شكراً بن لادن ورفاقه!). ولعل ذلك ما قد يفسّر أيضاً إصرار إدارة أوباما على عدم التراجع أمام استهتار نتانياهو واستخفافه بالموقف الأميركي المعلن سواء من قضية الاستيطان أو إقامة الدولة الفلسطينية. ما يفعله أوباما حالياً هو إعادة النظر في بندول العلاقة مع إسرائيل، تحت «يافطة» الحفاظ عليها والإبقاء على تميّزها، وليس تجميدها أو إنهاءها. وهو يبدو كما أنه يقوم بعملية مراجعة تاريخية «ناعمة» لسجّل هذه العلاقة، وفقاً لقاعدة المكسب والخسارة. وهو تطور نوعي لم يكن أحدٌ من الرؤساء الأميركيين أن يجرؤ على القيام به خوفاً من تداعياته على مستقبله السياسي. وقد وصل ذكاء أوباما في طرحه هذه المراجعة، أن أقنع بها كثيراً من أركان إدارته بمن فيهم أولئك ذوي الأصول اليهودية (رام إيمانويل، وديفيد إكسيلورد، ودينس روس)، متكئاً في ذلك على أمرين، أولهما الإيحاء بصعوبة، إن لم يكن استحالة، استمرار الخلل في هذه العلاقة بسبب تداعياتها على المصلحة «الوطنية» الأميركية. وثانيهما، خلق حالة من الانسجام «النادر» بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية (الخارجية والدفاع والأمن القومي) في ما يخص الموقف من تكلفة التأييد «الأعمى»Blind Support لإسرائيل. مستفيداً في ذلك من «حماقات» نتانياهو وأخطائه المتكررة. ولربما يظل الكونغرس الأميركي هو نقطة الضعف الوحيدة في مراجعة أوباما للعلاقة مع إسرائيل، وذلك بسبب العلاقة «الزبائنية» مع اللوبي الإسرائيلي المتنفّذ، خاصة مع اقتراب موسم التجديد النصفي لانتخابات الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. والرسالة التي حرص كبار القادة والمسؤولين الأميركيين إيصالها لإسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية، هي «ساعدونا كي نساعدكم». وهو تحوّل واضح، وإن كان على مستوى الخطاب، إلا أنه قد يُترجم فعلياً لسياسات ما لم تتراجع حكومة نتانياهو عن نهجها المتهور. النقطة الثانية تتعلق بحدوث تحول في المزاج «الأميركي» تجاه العلاقة «الحصرية» مع إسرائيل. وثمة أصوات كثيرة تطالب بتفكيك هيمنة اللوبي الإسرائيلي على صوغ العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، وذلك سواء بسبب الصورة السلبية التي تعاني منها إسرائيل بوجه عام على المستوى الدولي، أو نتيجة لرفض كثير من الأميركيين الارتهان لأي حكومة إسرائيلية، خصوصاً إذا كانت متهورة كالحكومة الحالية، في توجيه السياسة الأميركية في المنطقة. هذا التحول في نظرة الأميركيين لإسرائيل، يمكن قراءته في مؤشرات ثلاثة لا تخطئها عينٌ فاحصة، أولهما حالة الذعر التي أصابت اللوبي الإسرائيلي أخيراً بسبب توتر العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وهو ما يمكن قراءته بسهولة في لهجة ومضامين الخطابات التي أُلقيت في المؤتمر السنوي للجنة العامة الأميركية – الإسرائيلية (ايباك 2010) الذي عُقد قبل أسبوعين. كما يمكن قياسه أيضاً في حجم الإعلانات والدعاية التي يتم نشرها حالياً في شبكات التلفزة الأميركية بعشرات الملايين من الدولارات من أجل تحسين موقف نتانياهو في مواجهة أوباما. ثانيهما، تآكل الصورة التاريخية عن إسرائيل بين الأميركيين، باعتبارها دولة «ضعيفة وفقيرة» على نحو ما حاولت «الصهيونية الليبرالية» Liberal Zionism تصويره طيلة النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ساعد على تآكل هذه الصورة، إضافة إلى «توحّش» إسرائيل في المنطقة، الضعف المتواصل لليسار الإسرائيلي الذي لعب دوراً حيوياً في تصدير هذه الصورة ونجح من خلالها في استدرار عطف شرائح عدة داخل أميركا وأوروبا طيلة العقود الماضية، ناهيك عن نزوع المجتمع الإسرائيلي ذاته باتجاه اليمين المتطرف. وتبدو ملامح هذا التآكل واضحة لدى الجيل الشاب من الأميركيين، خصوصاً ذوي الخلفيات المهنية والعملية، ولدى شرائح من الحزب الديموقراطي، إضافة إلى الكنائس ذات المسحة الليبرالية، وأخيراً لدى شريحة واسعة من الأميركيين السود. صحيح أن هذا التحول لم يُترجم بعد إلى قوة سياسية مؤثرة، بيد أنه قد يكون «بذرة» في تفكيك العلاقة «الأرثوذكسية» بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ثالثها، ظهور تكتلات وتنظيمات سياسية جديدة تسعى، إن لم يكن لمنازعة هيمنة «الايباك» على النخبة السياسية في أميركا، فعلى الأقل لتأسيس منظور جديد للصراع العربي – الإسرائيلي يستهدف مخاطبة الرأي العام الأميركي ويحاول إعادة تعريف الدور الأميركي في هذا الصراع. منها على سبيل المثال مجموعة «جي ستريت J Street» التي تأسست في نيسان (أبريل) 2008، وتضم مجموعة من اليهود الأميركيين وبعض الإسرائيليين ذوي التوجهات اليسارية وتستهدف تقليص دور «الايباك» في توجيه السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي. ولعل اللافت في قيام مثل هذه التكتلات، لا يتعلق بمدى تأثيرها فهي لا زالت في طور التشكّل، وإنما في كونها تعكس حجم الانقسام والاختلاف داخل التجمعات اليهودية الأميركية إزاء السياسات الإسرائيلية وحدود الدور الأميركي في دعمها. هذه المؤشرات، وغيرها، لم تثر قريحة بعض المعلّقين العرب الذين أراحوا أنفسهم من عبء قراءتها وتحليلها، في حين اعتبر بعضهم أن الخلاف الأميركي – الإسرائيلي هو مجرد «زوبعة في فنجان» لا جدوى من متابعة تفاصيلها. ولربما ينتظر هؤلاء حتى تتم «تصفية» أوباما على يد أحد المتطرفين اليهود كي يتأكدوا من حقيقة هذا الخلاف. وكان أجدر بالزعماء العرب الذين اجتمعوا في سرت قبل أيام أن يتخذوا موقفاً أكثر صرامة وشجاعة من إسرائيل، ولو في شكل تكتيكي، من أجل الاستفادة من هذا الخلاف وتوظيفه لمصلحة قضيتهم. أما المثال الثاني «العبثي» فهو ذلك المتعلق بالضجّة المفتعلة حول مقترح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي بإنشاء رابطة للجوار العربي تضم، فضلاً عن تركيا وإيران، دولاً أفريقية مثل تشاد وإثيوبيا، وهو ما أطلق سيلاً من الكتابات والتعليقات وجّهت جميعها اللّوم للأمين العام واعتبرت تصريحاته بمثابة «نعي رسمي» للنظام العربي. ولا أعرف ما إذا كان هؤلاء المعلقّون لا يدركون حقاً حجم المأساة التي يعيشها النظام العربي الذي بات ينتظر «رصاصة الرحمة»، أم انها «الفوبيا» العربية من مجرد طرح اسم إيران في مبادرة موسى؟ وإذا كان البعض يرى أن هذه «الرابطة» هي بمثابة غطاء شرعي لتبرير التدخلات الإقليمية في الشأن العربي، فإن بقاء النظام العربي على حالته الراهنة من الوهن والتراجع، هو بمثابة تأكيد لاستمرار هذه التدخلات وإطلاق جميع «الأيدي» الإقليمية للعبث في القضايا العربية. «مبادرة موسى» على رغم عدم واقعيتها لأسباب لا مجال لمناقشتها الآن، إلا أنها تبدو أقرب إلى «صرخة» تستهدف استثارة وشحذ الهمّة العربية باتجاه المخاطر المتكالبة على النظام العربي، ومحاولة للبحث في كيفية مواجهتها بواقعية. وهو عندما طرحها كان يدرك قطعاً صعوبة، إن لم تكن استحالة، تسويقها وتطبيقها عملياً، ليس فقط بسبب عدم «هضْم» بعض الدول العربية الفكرة عطفاً على تعقيدات علاقاتها مع طهران وأنقرة، وإنما أيضاً بسبب قصور الوعي العربي عن إدراك حيوية الروابط الإقليمية الجديدة «New Regionalism» في إدارة العلاقات الدولية الراهنة وفق قاعدة الندّية والمصالح المتبادلة. دعك من إيران وتركيا، وكلتاهما مرآة كاشفة لعجزنا وفشلنا، ودعنا نتحدث عن رابطة عربية جديدة تقوم على المصالح فقط، ما دامت الروابط الأخرى كاللغة والتاريخ والثقافة قد أثبتت عجزها وعطبْها، ولعل هذا هو مغزى «بادرة موسى» الأخيرة قبل أن يأخذ عصاه ويرحل. * أكاديمي مصري، جامعة «دورهام»، بريطانيا