استشهاد 13 فلسطينيا في قصف إسرائيلي على الشجاعية ومخيم البريج    عراقجي وزير الخارجية الايراني يزور الرياض سعياً لتجنيب المنطقة مواجهة عسكرية خطيرة    استمرار هطول أمطار رعدية متوسطة بمختلف مناطق المملكة    أمير المدينة المنورة يرعى حفل جائزة أمين مدني لدراسات تاريخ الجزيرة العربية    التنوير والتغريب    رحيل اللواء كتاب العتيبي.. رائد "الطب العسكري" في المملكة    إمام المسجد النبوي يزور مجلس العلماء الإندونيسي بجاكرتا    معدل الأعمار على مستوى العالم يتجه للتباطؤ في القرن الحالي    وكالة عزيز للدعاية والإعلان تعزز الشراكة المجتمعية مع ثانوية الصديق بخميس مشيط    سفارة السعودية في أمريكا تحذر المواطنين من تداعيات العاصفة ميلتون    جامعة أسكتلندية: هكذا انقرضت الديناصورات قبل 66 مليون عام    ثورة دوائية.. علاج جديد لسرطان الرئة    5 علاجات منزلية لإزالة البقع من الأسنان    المديرس يفتتح لقاء صقور الكشافة ووسام كشافي العالم    الهلال الأحمر بعسير يحتفي بيوم المعلم ببرامج تكريمية وتوعوية    مدير عام فرع بيئة نجران يقوم بجولة تفقدية بمحافظة شرورة    217,000 وظيفة ثقافية و 3 % عوائد متوقعة بحلول 2030    30 سنة سجناً لوافدَيْن تورطا في 177 عملية احتيال مالي    «نيوم»: مجمع صناعة خرسانة ب 700 مليون لبناء «ذا لاين»    للدوري والكأس.. بلان يجهز العميد    أمانة جدة تستعيد 3 مواقع على واجهة شرم أبحر    الدسوقي من اليابان: السعودية تسعى لإنتاج 600 طن من الهيدروجين الأخضر    العيسى: إقرار «وثيقة بناء الجسور» نقلةٌ مهمّةٌ في العمل الإسلاميّ المشترك    مؤشرات البورصة الأمريكية تغلق على ارتفاع    قبل مواجهة اليابان ب 48 ساعة .. سباق جماهيري للظفر بتذاكر مباراة الأخضر    "عدنان" و"هوساوي" أبطال ذهب رفع الأثقال البارالمبية في ألعاب السعودية الثالثة    رونالدو الأكثر متابعة بفارق شاسع عن ميسي    جمهور يتعذب !    ثمّن دعم القيادة الرشيدة للإستراتيجية البيئية.. أمير الشرقية يُدشّن التمرين التعبوي» استجابة 15»    البيعة العاشرة.. ازدهار ونماء وجودة حياة    قيادة حكيمة ورؤية طموحة    جهود رائدة    خالد بن سلمان يستعرض مع أوستن التطورات.. ويلتقي السفير الفرنسي    السابع من أكتوبر    العثور على مفقود وادي بن هشبل بصحة جيدة    ولي العهد يطمئن الجميع على صحة خادم الحرمين.. مجلس الوزراء: نقل الترخيص لممارسة مهنة الاستشارات الإدارية للأفراد من "التجارة" إلى "الموارد البشرية"    السابع من أكتوبر.. جردة حساب    دشن النشرة الإلكترونية للجنة القانون الدولي الإنساني.. الأمير تركي الفيصل: المملكة لا تدخر وسعاً في نشر السلام    المسلم ينوه بدور السعودية المحوري في دعم الأمن والاستقرار.. المملكة والبحرين تعززان العلاقات البرلمانية    «وطن.. يلجأ العالم لسمائه»    ما هو تعريف الرومانسية؟    توفيق الحكيم.. عصفور من الشرق    تسوتايا ..مكتبة أم مركز ترفيهي؟    «الدرعية.. من هالأرض».. التاريخ يصنع المستقبل!    "الأكاديمية المالية" تعزز استدامة المواهب    تطوير أعمال مشاريع البنية التحتية للمجمعات التعدينية    ماكينة قهوة تنهي 17 سنة زواج    الأخضر يكثف تحضيراته لمواجهة اليابان في تصفيات المونديال    لمدة ثلاث سنوات .. "موسم الرياض" راعياً رسمياً للدوري الإسباني لكرة القدم    لماذا خسر الأهلي من الهلال؟    اكتشاف خلايا خفية تساعد في التئام الجروح    طريقة عمل كبسة الدجاج الحمراء بالزبيب    «الإسلامية» تواصل برامجها لخدمة المعتمرين والزوار    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سلطان بن محمد    الخريجي: السعودية تجدد إدانتها للإرهاب بأشكاله وصوره كافة    نائب أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء جمعية درع للبحث والإنقاذ    العيسى: إقرار «وثيقة بناء الجسور» نقلةٌ مهمّةٌ في العمل الإسلاميّ المشترك    نائب أمير مكة يتسلم تقرير «المساحة الجيولوجية» بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاروق عبدالقادر يلفظ أنفاسنا
نشر في الحياة يوم 05 - 04 - 2010

كنت كلما زرت القاهرة، أسعى الى لقاء فاروق عبدالقادر، ألتقيه أو أحادثه هاتفياً إذا لم تسمح لنا الظروف في أن نلتقي. أما لقاءاتنا الحقيقية فكانت في بعض المهرجانات المسرحية العربية، وكانت جلساتنا تطول من غير ملل، فهو كان صاحب روح مرحة، فكهاً وخفيف الظل، علاوة على مهارته في استعراض آرائه ومواقفه النقدية التي لم تكن ترحم مَن يقع عليه نقده الثاقب.
كان فاروق عبدالقادر وجهاً لامعاً من وجوه القاهرة. ناقد فاته أن يكون مبدعاً فأصبح مبدعاً في النقد الذي جعله بمثابة حرفة مشبعة بالشغف أو الهوى. كان ناقداً محترفاً، يعيش من النقد ويعيش له، وقد نذر حياته لهذه الحرفة حتى قضت عليه، فلم يتزوج ولم ينجب ولم يجمع مالاً. وعندما فاز بجائزة سلطان العويس في دورتها الثالثة (1992 - 1993) مناصفة مع الناقدة يمنى العيد، لم يصدّق أنه حصل على مبلغ خمسين ألف دولار، فراح ينفق المال من غير وعي، وكأنه ثري كبير، يعطي ويساعد بلا هوادة ولا يخيّب سائلاً أو مستعطياً. ولم تمضِ أشهر حتى نفد المال وعاد فاروق الى سابق عهده، يكتب ويعيش مما يكتب. فهو أصلاً لم يحتمل الوظيفة التي خبرها فترة بل إن الوظيفة نفسها لم تحتمله هو الكاتب «الحر» الذي كان يرفض دوماً الخضوع لأي سلطة أو وصاية. حتى اتحاد الكتاب المصريين رفض الانضواء في صفوفه مع أنه كان يحتاج الى الحماية الصحية و «المعاش» كما يقول المصريون.
أقول كان فاروق عبدالقادر، غير منتبه الى أنني استخدم صيغة الماضي التي لا تليق به، هو الكاتب المتحمّس دوماً، الجاهز دوماً لخوض المعارك ومواصلتها، المترفع الذي يرفض المداهنة والمواربة أو المجاملة. ما أصعب فعلاً أن نقول: كان فاروق عبدالقادر...
الخبر الأليم بلغني عندما زرت القاهرة أخيراً. سألت عنه كعادتي فقيل إنه يُحتضر في مستشفى شعبي «رخيص» ووضيع جداً، بعدما أصابته جلطة في الرأس تلاها نزيف ثم وقوع في الغيبوبة المطلقة. كان الخبر أليماً جداً، وما زاد من مأسويته أن فاروق شبه وحيد ومعزول في هذا المستشفى، يرقد على السرير كالغريب، لا أحد يزوره ولا أحد يسهر عليه. وطوال الحادثة التي تعرّض لها أخيراً لم يكن الى جانبه سوى سهير، خادمته الشابة التي تناديه «بابا»، وهو كان يتحدث عنها بحبور وكأنها حارسه الأمين بعد رحيل شقيقته التي كانت تعنى به. ويقال في القاهرة إن فاروق لو توفرت له رعاية صحية جيدة لحظة اصابته بالجلطة لأمكنه أن يقاومها ويتعافى، لكنّ الفقر المدقع الذي يعيشه لم يسمح له أن يخضع لعلاج جيّد. ويلقي بعض اصدقائه تبعة تردي حالته الصحية على اتحاد الكتاب المصريين وعلى وزارة الثقافة أو الدولة التي كانت تعده دوماً بمثابة «الخصم» الشرس الذي يحتاج الى ترويض وتأديب. لكن أصدقاءه القلّة يعترفون أن جابر عصفور وعماد أبو غازي عمدا الى مساعدته مالياً من خلال المجلس القومي للترجمة والمجلس الأعلى للثقافة. أما محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب فدافع عن نفسه مؤكداً أن الاتحاد منحه العضوية الشرفية ليوفر له دعماً مالياً. وهذا سجال لم يبق مفيداًَ بعدما وقع فاروق في حالة «الموت» الكلينيكي أو السريري. ولن يشفع به مال اتحاد الكتّاب الذي جاء متأخراً، إن جاء أصلاً.
لا يمكن تصوّر المشهد الثقافي في القاهرة خلواً من فاروق عبدالقادر ومن معاركه ومواقفه الجريئة. كان قراؤه ينتظرون مقالاته ليتحروا رأيه في مسرحية ما أو رواية ما وقضية ما. كان فاروق يجمع ببراعة بين النظرة النقدية العميقة والأسلوب السلس الذي ما كان ليصيبه الجفاف، حتى وإن أمعن في التحليل العلمي والقراءة المعرفية. وكان يتكئ على ثقافته الشاملة، يوظفها في عمله النقدي، بعيداً من الادعاء الأكاديمي. وكانت مقالاته تُقرأ بمتعة مزدوجة، أولاً نظراً الى طريقته في تقديم العمل وتحليله والاحاطة الشاملة به، ثم من جراء سبره أعماقها وأسرارها، معتمداً لغة حية ومتوترة وحديثة جداً. استطاع فاروق أن يجعل المنهج العلمي في خدمة النقد الأدبي المنفتح على القارئ والمتحاور معه. وقد أفاد كثيراً من المدارس النقدية والنظريات والمناهج، القديمة والجديدة، وعرف كيف يوظفها في صميم عمله وفي مقارباته الفريدة التي تميز بها.
وقد رفده المامه العميق باللغة الانكليزية واجادته إياها، بسعة إطلاع وبرحابة ثقافية وأفق معرفي. وكان هو من خيرة المترجمين الى العربية وقد نجح كثيراً في ترجمة كتاب المسرحي العالمي الكبير بيتر بروك «النقطة المتحولة» جاعلاً إياه في متناول القراء العرب. وهذا الكتاب من أهم المراجع المسرحية الحديثة التي لا بد من العودة اليها. وترجم فاروق أعمالاً عدة لكتاب ونقاد كبار. أما كتبه النقدية فكثيرة ومتعددة الهموم والشواغل والرؤى، وقد دارت حول المسرح كما حول الرواية والنقد والثقافة والفكر. وقد رافق بتأنّ وتؤدة أعمال الجيل الجديد والشاب لا سيما في حقل الرواية راصداً ملامح التغيير الذي أحدثه هذا الجيل في المقاربة الروائية للعالم والفرد والجماعة.
ولئن عرف فاروق عبدالقادر بنزعته التشاؤمية على رغم المعارك التي خاضها ضد «الفساد» الثقافي و «الترويض» الثقافي وضد التسلط والتكاذب والانحطاط، فهو كان يتحلى بروح فكهة وساخرة حتى العبث. ويذكر قراؤه جيداً كيف وصف مرة «حرب» نوال السعداوي ضد «الذكورة» بالحرب «الصليبية» بينها وبين الرجل. كما يذكرون أيضاً الحرب التي شنها على جمال الغيطاني على رغم صداقتهما الشخصية.
في العام 1994 أصدر فاروق عبدالقادر كتابه الجميل «نفق معتم ومصابيح قليلة» وهو النفق الذي تجتازه الثقافة العربية وليس المصرية فحسب، النفق الذي لا نهاية له على رغم المصابيح القليلة التي تضيء زواياه. أتخيل الآن فاروق عبدالقادر يعبر هذا النفق تاركاً لنا نحن قراءه وأصدقاءه، بضع نثرات من ضوء، نحتاجها فعلاً في هذا الظلام الذي يحيط بنا.
لم يعد مجدياً الآن أن نقول أو نصرخ: انقذوا فاروق عبدالقادر! الوقت فات وفاروق يلفظ أنفاسنا الأخيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.