أُسدلت الستارة على حياة الأديبة مي زيادة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1941، وكانت قد طلبت أن يُكتب على قبرها: «هذا قبر فتاة لم يرَ الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصّات، عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت ثم قضت»، وهو قول على اختصاره عميق بصدقه وألمه، فالمسألة ليست في كم تبتسم حين تفرح، ولكن في كم تبتسم حين تحزن وتشعر بأن الدنيا على وسعها لم تسعك، والمفارقة والسطحية في آن حين تقاس حالك (المعنوية والمادية) بهذه الابتسامة، فمن يراك منفرج الأسارير، يصدر تقريره الختامي عنك بأنك تنعم في أحسن حال، ولا بأس من حسدك عليها، ومن يراك مقطب الجبين، ولا تجود بشبح ابتسامة، فأنت الجاد المنشغل بأمور أهم وأكبر، ويستحسن أن تُترك في حال سبيلك، هذا في أحسن التفاسير طبعاً، أما في أسوأها، فأنت إنسان «نكدي» ومعد بتشاؤمك، و«برضو» من الأنسب الابتعاد عنك، فإلى متى نستمر في هذه الأطر الضيقة؟ ومتى كانت الأسنان حكماً على خلو الحياة من الشقاء؟ فأوقع سعادة في نفوسنا هي التي لا يشعر بها غيرنا، ولا دليل عليها غير رعشة قلوبنا وقفزاتها، وهي حفلة خاصة نقيمها بين أضلعنا وقد لا نعلن عنها. يقول الفيلسوف الألماني- الفرنسي شويتزر: «اللون الأخضر للمتفائل، والأحمر للمتشائم، أما الحكيم فإنه مصاب بعمى الألوان»، نعم الحكيم هو الذي لا يخصص ولا يعمم، فكم من ابتسامة ووراءها ألف دمعة وتنهيدة، وكم من وجه ضحوك ويكتوي من حرقة قلب وفقد، ولو لم نتجمل بالابتسامات، لملّنا البشر وكرهوا وجوهنا العابسة، ولولا استقبال أيامنا وهمومنا بابتسامة نتصبر بها وننتظر اقتراب يوم نتمناه، لمات الأمل فينا ووُئدت أرواحنا، فالحكاية ليست أبيض ولا أسود، هي مجموعة ألوان مختلطة ولا تعيّن ما نحس، وقد يظهر الأحمر ولا يعني الحب، وقد يظهر الأصفر ولا يعني الغيرة، ففرحي وترحي لا يقاس ببسمة أو بلون أو بما أبدو عليه، ومن اللؤم حين يصطادك أحدهم وأنت تبتسم (وقد تقترف الضحكة)، فيظن أن فرصته حانت كي يطلب منك ما يريد، وكأن الأسلم أن تظل على تكشيرتك، ومعها مسافتك من الآخرين، فلا أحد يعلم أنك ترقص مذبوحاً من الألم، والأدق لا أحد يريد أن يعلم. في عالمنا العربي الجميل تحترس من توزيع الابتسامات، كي لا تفسر على غير محملها البريء، وبخاصة أن غيرك قام بدوره غير البريء، ولم يترك لك مساحة لحسن الظن. في عالمنا العربي الوديع أن تشق طريقك بالسيف وفرقعة الصوت، خير لك من أن تشقه بابتسامة قد تفسر على أنها ضعف وإفلاس. في عالمنا العربي المبجّل تُوصى المرأة وتُنصح بالحد من حماستها للابتسامة أو التمادي فيها، كي لا تتسابق الأحكام المتصنعة، فتوصم سلوكها في كل مرة تعيش فيها عفويتها. هل نحن معقدون إلى هذا الحد؟ هل كبلنا إرثنا التاريخي عن التمرد حتى على أبسط الممارسات والقناعات السخيفة؟ ثمة حد يصبح فيه الإخلاص إهانة للذات، وفي اعتقادي أننا أخلصنا لمناهج تفكيرنا المعطلة، وكأنها جزء من فحولتنا العربية، التي يضحي فيها الحاكم المستبد بوطن وبمخصصاته للمحتل، حتى لا يفارقه ماء وجهه أو يتنازل عن عناده، فيخسر نفسه ووطنه وهو لا يزال مصراً على صوابه. وكلمتي الأخيرة أن العالم كله آلة تصوير، فابتسم من فضلك، ولا تشغل بالك بالصورة أو بالآلة. [email protected]