في سنتي الجامعية الثالثة، وبتوجيه من أستاذي سامي سويدان بضرورة قراءة إدوار الخراط، مشيت من مقرّ الجامعة اللبنانية في منطقة الأونيسكو إلى «دار الآداب» لأحصل على نسخة من رواية «رامة والتنين». مضت سنوات طويلة على ذاك اليوم، إلا أن ذكرى اكتشافي لتلك الرواية لا يزال ماثلاً في ذاكرتي، بما فيه من تداخل إحساس بهجة قراءة نص محلق يتميز بثراء لغوي وبعد أسطوري يشق حضوره من قلب الحياة والشوارع والمدن التي يتحرك فيها البطلان: رامة وميخائيل؛ ولسنوات لاحقة ظل اسم ادوار الخراط مقترنا عندي بصوت بطله ميخائيل وهو ينادي على رامة... قرأت «رامة والتنين» أكثر من مرة، وحفظت منها مشاهد، وتساؤلات عن الحياة، عن التداخل الخلاب بين اللاوعي والموت، بين الحلم والحدس، التخلي وفقدان الحب في حزن عبثي وأبدي مع قرار مواجهة الألم المتصل حتى النهاية. « قال لها من دون أن يتكلم : يا حبيبتي، نحطم بأيدينا كل بنايات عمرنا، هذه الجدران التي أقمناها، كل منا على حده، طول السنين، بتضحيات لا أحد يعرف ثمنها، هذه السجون التي نرتطم بأبوابها الموصدة كل يوم. حبنا نافذة في الشمس، قطعة ممزقة من سماء الليل الفسيحة. العلاقات التي تبتر، نظم الحياة التي تتقوض وتنهار متاع خفيف وجوهري من الحب والكتب. قطع أخرى أيضاً من القلوب تمزق وتترك وراءنا موسيقى التوقع والتشوف». تداعيات الذاكرة هذه الرواية التي يبدو فيها تيار الوعي بطلاً رئيساً عبر تداعي السرد من خلال ذاكرة البطل، ومونولوغه الداخلي الكاشف للماضي، والمستشرف للحاضر والغد، يحضر التداخل فيها بين ذاتية ميخائيل في بوحه عن نفسه، وفي وصفه رامة وسط هذيانات مشرعة على العدم حين يعتبر أن ميخائيل يموت كل يوم ميتة صغيرة، ويبعث في الصبح ميتاً، او وهو يصف علاقة رامة بالزمن: «هي لا تعود أبداً إلى شيء مضى، ولا تذكر أبداً، لا تقول إن شيئاً قد حدث وانقضى، كل شيء عندها الحاضر، كل لحظة تبدأ عندها من جديد، كأن الماضي لم يحدث أبداً، وبالتالي لم ينسَ ولم يذكر لأنه لم يكن هناك أصلاً. كل حكاياتها في الحقيقة تجري بالفعل المضارع ، ولا تعرف المستقبل أيضاً، لا تراه يوجد». يبدأ المشهد الأول من «رامة والتنين» مع حلم، لا يكتشف القارئ في الأسطر الأولى أنه حلم حتى لحظة يقظة ميخائيل ومناجاته على رامة، التي تتلازم النجوى لها - عند القارئ - مع حدس فقدها، والتريّب من حضورها لما فيه من ألم محتمل ومقبل، إنه هذا الحب الموسوم بالوجع، وبنوع من الحنين المازوشي يتضاعف حضوره من وجهات متباينة، بؤرتها العشق الغريب الذي يبدو في فعل المناجاة الحاضر بنبل على مدار النص. يحيل عنوان «رامة والتنين» القارئ منذ البدء على الجانب الأسطوري. أما رامة فهي معشوقة قريبة ونائية أيضاً، قاسية أحياناً، باذخة في عشقها. وعلى رغم تعمّد الكاتب إبراز حسيّتها، فهي تبدو امرأة غير ملموسة: «قال لها: دائمة الشباب، تخرجين من المياة المحرقة كل مرة في غضاضة الصبا الجديد». جوهر الكتابة لم يقتصر حضور ميخائيل في كتابة الخراط على هذه الرواية فقط، بل إنه يحضر كبطل روائي في رواية « الزمن الآخر» التي اعتبرها النقاد الجزء الثاني من «رامة والتنين»، ويظهر أيضاً في «يا بنات اسكندرية» و«ترابها زعفران». ميخائيل هو البطل المفضل عند الخراط، هو توأمه الروحي في اكتشاف الحياة من دون «يقينيات» جازمة، بل في التباس دائم وشك حائر يزداد تلعثماً وحضوراً مع تكرار أسئلة وجودية كبرى تأخذ منحى واحداً حول الإنسان الذي يملك حساً واعياً بعمق الأشياء لا شكلانيتها، بالحب، بالألم، بالموت، الحياة، الخسارة. لطالما توقفت أمام كتابة إدوار الخراط ووجدت فيها خصوصية ميّزت أعماله، في احتفائه باللغة، وفي اختياره ألاّ تكون الحكاية جوهر الكتابة بل الطقس المنسوج حولها من خيال يستمدّ وهجه من جماليات التكنيك التجريبي، والحساسية الشديدة في تلمس اللغة عبر صياغات فنية تقدم منجزها الروائي في أجواء حداثية، وعوالم متخيّلة ورمزيّة، تتحكم بها تداعيات واقعية فرضت حضورها ذاكرة الروائي، وعالمه الخاص المتفرّد والمغاير.