نزل إلى الأسواق الأوروبية حديثاً الفيلم الفرنسي «أوطان» من إخراج شايان كارون، وهو يروي حكاية شاب يغادر باريس مع أهله للإقامة في ضاحية تسكنها غالبية من المهاجرين، الأمر الذي يؤدي إلى نشوب مشاجرات حادة بين المراهق إياه وسكان الحي الذين يصعب عليهم تقبّل أي شخص جديد في محيطهم. وشايان كارون مخرجة سينمائية لا تشبه غيرها، فهي في التاسعة والثلاثين تحمل عبء كل فيلم جديد تخرجه وحدها من دون أي مساعدة، بمعنى أنها تخرج الأفلام لكنها أيضاً تنتجها وتوزعها، بما أن المواضيع التي تتناولها لا تساعدها على العثور بسهولة على الإمكانات المادية الضرورية لتنفيذ السيناريوات التي تكتبها وتحويلها إلى أعمال مرئيّة فوق الشاشة. وعلى سبيل المثال فإن أول فيلم أخرجته كارون يحمل عنوان «الفتاة العامة» وهو يروي حكاية فتاة لقيطة تتبناها عائلة وتحسن معاملتها وتربيتها، إلى أن تكبر وتنجح في حياتها الخاصة والمهنية، ربما بشكل أفضل مما كان سيحدث لو كانت تربت على أيدي عائلتها الحقيقية. ويتميّز الفيلم بمستوى عال في الإخراج والأداء إلا أنه واجه الكثير من الانتقادات بحجة أنه يصور سعادة فتاة متبناة، على عكس الشيء المعتاد في الأدب والسينما عموماً حيث تظهر العائلة المتبنية وكأنها شريرة تسيء معاملة الطفل الذي ترعاه. واعتبرت بعض وسائل الإعلام الحسنة النية أن التربية المثالية لا يمكن أن يعثر عليها المرء سوى في إطار عائلته الشرعية، وبالتالي واجهت كارون صعوبات شتى قبل أن تنجح في عرض فيلمها في الصالات بعد قيامها بإنتاجه وتمويله وتوزيعه شخصياً. والأمر نفسه يحدث الآن في شأن فيلم «أوطان» بسبب حبكته التي تسلط الضوء على العنصرية التي يواجهها شاب فرنسي من قبل مجموعة من المهاجرين في ضاحية شعبية مكتظة بهم. «الحياة» التقت كارون في باريس وحاورتها. ما الذي دفعك إلى التفكير في حبكة مثل هذه التي يرويها فيلمك «أوطان»؟ - أنا شخصياً لا أسكن في ضاحية بل في باريس، إلا أنني أعرف امرأة فرنسية عاشت سنوات طويلة في إحدى الضواحي التي يسكنها عدد كبير من المهاجرين، وهي روت لي كيف أن العنصرية في المنطقة التي أقامت فيها باتت من الأمور المتبادلة في شكل مستمر بين الفرنسيين والمهاجرين وكذلك بين المهاجرين أنفسهم، بحسب أصولهم. لقد وجدت الموضوع مثيراً للانتباه بالنسبة إلى الأفكار الشائعة في كثير من المقالات والأعمال الأدبية والفنية التي ترغب في أن يكون الفرنسي هو دائماً الشرير العنصري والمهاجر هو الضحية الطيبة القلب. هذه رؤية ساذجة، بينما البشرية مشكلة من أشخاص يختلفون عن بعضهم البعض، بينهم فاعل الخير والشرير، مهما كان لون بشرة أو جنسية هذا أو ذاك. واستناداً إلى ذلك كتبت سيناريو «أوطان». تميلين عموماً في الأفلام التي تخرجينها إلى السير عكس التيار، لماذا؟ - هذا صحيح، والسبب بسيط وهو أن التيار إياه لا يتميز بالشجاعة والصراحة ومواجهة الأمور على حقيقتها، فأنا أعبر من خلال أفلامي عن أشياء كثيرة يراها البعض صحيحة في شأن المجتمع الذي نعيش فيه لكنه لا يجرؤ على تسميتها. وبحسب رأيي لا بد للفنان من معاكسة التيار إذا أراد التعبير عن الواقع الإجمالي وليس عن جانب واحد منه. ولكن يبدو أنك تدفعين الثمن غالياً، بما أنك لا تعثرين على منتجين وموزعين لأفلامك وبالتالي تفعلين كل شيء بنفسك، أليس كذلك؟ - أجل. والذي يحدث لي هو خير دليل على أن حرية الفنان لا تزال محبوسة في الإطار الذي يرضي أصحاب السلطة وإلا فعليه أن يتصرف كيفما استطاع من أجل أن يمارس فنه ويوجهه إلى العدد الأكبر. أنا لا أواجه أدنى اعتراض أو رقابة لكنني أجد نفسي مجردة من الوسائل الإنتاجية ومن التوزيع في صالات السينما وبالتالي أمول أفلامي بنفسي وبموازنات ضئيلة جداً، بما أن الفريق الفني المحيط بي يقبل العمل في شكل مجاني، مثل الفريق التقني. أننا نعمل استناداً إلى الثقة المتبادلة، وكل فرد يستثمر طاقته بأفضل طريقة ممكنة لمصلحة نوعية الفيلم. وفي ما يخص التوزيع فأنا أحمل فيلمي تحت ذراعي وألتقي مدراء الصالات إلى أن أعثر على فئة منهم توافق على عرضه. ألست متعبة من هذه الطريقة؟ - أنا مرهقة في كل تجربة جديدة أعيشها وألاحظ أنها مثل التي سبقتها من ناحية الكفاح الذي لا بد أن أخوضه، لكنني سرعان ما أستعيد قواي لأنني مؤمنة بما أفعله ومولعة بالسينما وبالإخراج. لا أبيع مبادئي ألا تفكرين في تغيير نمط مواضيعك بعض الشيء بهدف أن ترتاحين ولو مرة وتعثرين على ظروف جيدة لترويج فيلمك؟ - إنني مستعدة للتنويع في أفلامي وممارسة الكوميديا مثلاً أو أي لون آخر، لكن شرط أن ينبع السيناريو من قرارة نفسي وألا أبيع مبادئي في سبيل راحة فنية مزعومة. ماذا يحدث إذا تسلمت سيناريو كتبه غيرك من أجل أن تقومي بإخراجه؟ - أوافق على إنجاز الفيلم لكن فقط إذا ناسب عقليتي وأفكاري، لأنني، كما ذكرت، لست للبيع. لنعد إلى فيلمك «أوطان» وهو بالأبيض والأسود، الأمر الذي يمنحه عمقاً تعبيرياً ورمزياً متفوقاً، حدثينا عن هذا الخيار السينمائي. - دعني أعترف لك بأنني وإن كنت راضية كلياً عن الأبيض والأسود في شأن فيلم «أوطان»، لمجرد أن هذا العنصر يخدم الحبكة، فان السبب الأول الذي جعلني أقرر اللجوء إليه هو قلة الإمكانات المادية لدي، وكون الأبيض والأسود أرخص بكثير من الألوان. ليس من المفروض أن أصرح بهذا الشيء وعلي أن ألعب لعبة الخيار السينمائي الفلسفي والرمزي، لكنني امرأة نزيهة لا أكذب، فلا تؤاخذني في شأن صراحتي. جو من الوفاق كيف تتصرفين مع ممثليك في أثناء التصوير؟ - أنا مخرجة صارمة إلى حد ما مع الممثلين، بمعنى أنني أعرف ماذا أريد وأصر على الحصول عليه، كما أنني لا أتراجع أبداً، ومع ذلك فالأمور غالباً ما تسري بشيء من السلاسة وفي جو من الوفاق، إذ أنني أحرص، منذ لحظة اختبار الممثلين قبل تعيينهم، على أن أعثر فيهم على مناي، وإذا صارت الأشياء هكذا تندر العقبات في ما بعد. وهل أنت خبيرة في الشؤون التقنية؟ -لا وأكتفي بالتعبير للتقنيين عن رؤيتي من أجل أن يتولوا في ما بعد ترجمة أحاسيسي إلى صورة وصوت فوق الشاشة. والمهم هنا أيضاً هو حسن اختيار الفريق التقني القادر على الانسجام مع عالمي وخيالي، أي المعادلة نفسها التي أطبقها بخصوص الممثلين. هل تترددين إلى السينما بكثرة لمتابعة أعمال غيرك من الفنانين؟ - لا، ليس في الوقت الحالي، لكنني كنت في الماضي أعشق مشاهدة الأفلام في صالات السينما، على عكس ما أفعله الآن إذ أنني أتابع الأعمال التي تستهويني بواسطة أسطوانات DVD أو في التلفزيون. إنني أجد متعة أكبر في الإخراج بالمقارنة مع مشاهدة الأفلام. هل تقرئين الكتب الخاصة بالسينما أو سيرة عمالقة الفن السابع؟ - نادراً ما أقرأ بالمقارنة مع حبي للكتابة. أنا أقضي معظم وقتي، خارج التصوير، في كتابة السيناريوات ولدي العشرات منها في بيتي التي لم أحولها بعد إلى أفلام حقيقية ملموسة. لماذا؟ -لأن الوقت لا يسمح بإخراج كل هذه الأفلام أو بإنتاجها، ولأن هناك بينها ما هو رديء لا يستحق التنفيذ سينمائياً. ما هي مشروعاتك المقبلة؟ - لدي مشروعات تخص أفلاماً روائية خيالية معاكسة بدورها للتيار، إضافة إلى مشروع فيلم تسجيلي عن الفراعنة والأهرامات، وآخر عن اليابان.