اختتمت في مدينة مرسيليا فعاليات الدورة التاسعة ل «الأسبوع الاقتصادي للمتوسط» التي أقيمت في «فيلا المتوسط»، الصرح المعماري الجديد الذي افتتح منذ عامين ويعدّ من روائع العمارة الحديثة في فرنسا، وهو مخصص للحوار ولتبادل الأفكار بين ضفتي المتوسط. وتميزت فعاليات ونشاطات هذا العام بالتركيز على موضوع المدن المتوسطية والتحديات التي تواجهها، وشارك في الفعاليات عدد كبير من المتخصصين والأكاديميين والسياسيين والديبلوماسيين والطلاب القادمين من فرنسا ومن أنحاء المتوسط. ونظمت الندوات والطاولات المستديرة بالشراكة مع عدد من المؤسسات الفرنسية ومنها «مكتب التعاون الاقتصادي من أجل المتوسط والشرق». أجمع المشاركون في الندوات والنقاشات على أن القرن الحادي والعشرين هو، مع هيمنة العولمة والاتصالات الحديثة، عصر المدن بامتياز. فالعالم اليوم يشهد تحولات مصيرية كبرى تنعكس بصورة مباشرة على حياة المدن وضواحيها، وهي تذكر بالتحولات التي حصلت في القرون الماضية، كما جرى في القرن الثامن عشر، عندما انطلقت الثورة الصناعية. بالنسبة الى المدن المتوسطية، هناك أولاً عامل الزيادة الديموغرافية، ففي العام 1970، كان عدد سكانها حوالى 154 مليوناً، أما في عام 2000 فقد بلغ 274 مليوناً ومن المتوقع أن يبلغ 378 مليوناً عام 2025. وتواجه المدن المتوسطية تحديات كبيرة تطاول البيئة والاقتصاد والثقافة والسياسة. صحيح أن المدن المتوسطية كانت تملك في السابق تاريخاً وتراثاً مشتركاً، بخاصة تلك المدن المطلة على البحر والتي شكلت موانئها حركة جذب عالمية سمحت بازدهارها الاقتصادي وتكوين مميز لسكانها قائم على التمازج القومي واللغوي والديني، غير أن التحديات التي تواجه مدن الشمال اليوم تختلف عن التحديات التي تواجه مدن الجنوب. وتشهد فرنسا حركة تنافس بين مدن نيس ومرسيليا ومونبوليه من أجل تحقيق مدينة متوسطية نموذجية من حيث البنى التحتية والنشاطات الاقتصادية والثقافية واستقطاب السياح الفرنسيين والأجانب. وكانت مرسيليا كما هو معروف قد عانت، منذ ستينات القرن الماضي، من العزلة بسبب مغادرة العائلات الثرية للمدينة بعد استقلال الجزائر وانتشار البطالة وانعدام الأمن في أحيائها الفقيرة والمهمشة. لكنّ اختيار مرسيليا كعاصمة للثقافة الأوروبية العام 2013، سمح للمدينة باستعادة نشاطها وإطلاق العديد من المشاريع العمرانية والاقتصادية والثقافية التي ساهمت في تطويرها ونموها حتى تكون قادرة على مواجهة القرن الحادي والعشرين. في الضفة الجنوبية للمتوسط، تأخذ التحديات أبعاداً أخرى بسبب ضعف البنى التحتية وسوء التخطيط، كما كشفت أخيراً أزمة النفايات في بيروت والأمطار الغزيرة في مدينة الإسكندرية مما أدى الى غرق شوارعها وتوقف جميع النشاطات، ودفع بأهلها الى التساؤل لماذا لم يتم الاستعداد لاستقبال فصل الشتاء بخاصة أن الخبراء البيئيين يحذرون منذ سنوات من الآثار السلبية للتغييرات المناخية وارتفاع مستوى سطح البحر مما قد يؤدي، بحسب ما هو متوقّع، الى غرق الإسكندرية والمناطق الساحلية في حدود منتصف هذا القرن. لكن الصورة ليست دائماً قاتمة وبعض مدن الجنوب المتوسطي بينت قدرتها على مواجهة تحديات العصر، كما أكد الباحث الفرنسي من أصول كولومبية كارلوس مورينو الذي ركّز على المدن المغربية ومنها طنجة والدار البيضاء والرباط. وهنا، لا بد من التوقف عند مدينة طنجة التي عرفت حركة نمو كبيرة في السنوات الماضية، وصارت عاصمة صناعية واقتصادية من الطراز الأول، بعدما كانت في القرن العشرين تعيش على ذكرى ماضيها كعاصمة ديبلوماسية وثقافية. من جهة أخرى، لاحظ الباحث الجزائري في «المعهد الفرنسي لتنظيم المدن» توفيق سوامي أن القضايا التي تواجه المدن المتوسطية الكبيرة اليوم تطال جوانب عدة منها تأمين المواصلات العامة للحد من ازدحام السير والتلوث البيئي. هناك أيضاً قضية التخفيف من الفروق الاجتماعية والطبقية بين سكان المدن وضواحيها. ومن المعروف أنه كلما ازدادت هذه الفروق، تحولت الأحياء الفقيرة والمهمشة الى أماكن مولدة للعنف والإجرام المنظم الخارج عن رقابة الدولة وسيطرتها. ودائماً في إطار الحديث عن تحديات المستقبل بالنسبة للمدن المتوسطية، يرى الباحث الفرنسي فرانك جيلينك أن التحدي الأساسي الذي يواجه مدن الجنوب هو سياسي بالدرجة الأولى، إذ ب من دون الأمن والاستقرار لا يمكن التأسيس لبرامج فعلية تسمح بمعالجة المشاكل المتعلقة بتنظيم المواصلات والنشاطات الاقتصادية والتوسع العمراني، خاصة أن الشباب يمثلون شريحة واسعة من سكان الضفة الجنوبية من المتوسط. ولا بد من العمل على تأمين الحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تضمن لهم الحصول على عمل ومستقبل أفضل. أخيراً، أجمع المشاركون على أن الأولوية اليوم بالنسبة للمدن المتوسطية هي تأمين الإصلاحات الضرورية والتشريعات لمواجهة العقبات والتحديات، ومنها ما يتعلّق بموضوع الارهاب والهجرة واللاجئين وحرية انتقال الأفراد والسلع داخل الفضاء المتوسطي. فالمهمّ هو تنظيم نشاطات اقتصادية جديدة تساعد على تطوير المدن اقتصادياً، إضافة إلى حماية البيئة الطبيعية. ومن المؤكد ان التحولات البيئية وما ينتج عنها من ارتفاع في درجات الحرارة ومن تلوث متزايد يطال الهواء والمياه وغيرها من الموارد الطبيعية، يستدعي حلولاً واستراتيجيات جديدة في معالجة قضايا البنى التحتية والتنظيم المديني ما سيساهم في تحسين الظروف الحياتية والمعيشية للسكان، مع الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذه المجالات وتعزيز الشراكة بين المدن المتوسطية. لكن هذه الشراكة هل يمكنها أن تقوم فعلياً مع ازدياد الهوة الثقافية بين ضفتي المتوسط وهيمنة الصراعات السياسية الحادة في الدول العربية؟ مع استمرار هذا الواقع المدمّر، هناك خشية كبيرة من أن تضيع فرص التعاون وآفاق العمل القائم على تبادل الخبرات لتعزيز المشاريع التنموية والبيئية المشتركة، ما يؤدي إلى ازدياد حدة الفروقات بين المجتمعات وإعاقة استثمار رؤوس الأموال وبرامج العمل بين المؤسسات العامة والخاصة.