الحملة التي يقودها رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراؤه ونوابه وحتى معارضوه على الاتحاد الأوروبي، في عقب قرار وسم منتجات الضفة والجولان المحتل والقدسالشرقية، هي في الحقيقة حملة دفاع عن النفس يخوضها بنيامين ناتنياهو، امام متهميه بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع مع اوروبا والعالم. فهم يعاينون التدهور الأمني وعجزه عن مواجهته ويشعرون بأنهم فقدوا الأمان في الشوارع والبيوت. ويسمعون الانتقادات في العالم. وناتنياهو لا يجد وسيلة سوى إلقاء الخطابات الملتهبة. وعلى رغم اصوات اليمين الإسرائيلي المتصاعدة باستخدام اليد الحديدية تجاه الفلسطينيين ومنفذي العمليات، وعلى رغم القوانين التي يسعى الى تشريعها نواب ووزراء اليمين، لتضمن حتى محاكمة الأطفال والفتية الفلسطينيين، الا ان الأصوات الداعية الى تحريك عملية السلام والتوصل الى تسوية، لم تعد خافتة. فقد خرج 100 ألف الى ميدان رابين في تل أبيب رافعين لواء إكمال مسيرة السلام. والصحافة الإسرائيلية تهاجم ناتنياهو لعجزه، وتحمّله المسؤولية عن الصدام مع الحلفاء الأميركيين وتطالبه بدفع المسيرة السلمية الى الأمام. وقد حظيت الخطة السياسية الجديدة التي عرضها رئيس حزب العمل الأسبق، وعضو الكنيست عمير بيرتس، امام مؤتمر «اسرائيل للسلام» في شأن اتفاق مع الفلسطينيين وترسيم حدود دائمة لإسرائيل، باهتمام بالغ. الخطة التي اطلق عليها بيرتس «خطة الانفصال القومي» تدعو الى ضم وفرض السيادة الإسرائيلية على 80 في المئة من اراضي الضفة الغربية التي اقيمت عليها المستوطنات، بخاصة غالبية الكتل الاستيطانية، وإجراء تبديل للأراضي، تضم إسرائيل من خلاله ما يساوي 5 في المئة من اراضي السلطة الفلسطينية، وتحول اليها نسبة مماثلة من الأراضي الإسرائيلية. ووفق بيرتس فإن هذه الخطة تثبت ان حل الدولتين لم يمت، وما زال تحقيقه ممكناً. ويرفض بيرتس، وفق خطته، ادعاء قادة اليمين الرافضين لأية تسوية كهذه بادعاء ان الوضع غير قابل للتحول ولا يمكن اخلاء المستوطنات لوجود حوالى 600 الف مستوطن وراء الخط الأخضر. وبرأي بيرتس فإن 200 الف من هؤلاء يعيشون في القدسالشرقية، وأكثر من 100 ألف في مستوطنتي «بيتار عيليت» و«موديعين عيليت». ويقول بيرتس ان الوضع الذي يطرحه اليمين لتعقيد القضية مناقض للواقع والمشكلة تتركز في نسبة صغيرة نسبيًا من المستوطنين الذين يجب اخلاؤهم رغم ارادتهم». طرد كل اوروبا من اسرائيل صحيح ان الإسرائيليين، وبينهم شخصيات وأحزاب غير متوافقة مع سياسة نتانياهو ردت على قرار وسم المنتجات بهيستيريا غير مسبوقة وراحوا يصفون القرار بأنه «ضد السامية»...، لكن قراراً كهذا فرض نقاشاً حول ضرورة خطوات جديدة نحو السلام وتخفيف الخناق عن الفلسطينيين، خصوصاً في ما يتعلق بمشاريع البناء الاستيطاني والمشاريع التي قررتها الحكومة في اعقاب التوتر الذي يسود بلدات طرفي الخط الأخضر، من شق شوارع للمستوطنين على حساب اراضي فلسطينيي الضفة والقدس وبناء المزيد من مقاطع جدران الفصل العنصري وتقييد تحركات الفلسطينيين وزجهم داخل سجن كبير، الى جانب اعمال القتل والترهيب وملاحقة المزارعين وتدمير مزروعاتهم والاعتداء عليهم، تحت حماية الجيش والشرطة. ويعزز ذلك التقديرات التي طرحها رئيس شعبة الاستخبارات في الجيش الجنرال هرتسي هليفي امام الحكومة الإسرائيلية بأن هذا الوضع (الذي سماه موجة الإرهاب) ناجم عن مشاعر الغضب والإحباط في صفوف الفلسطينيين، خصوصاً الجيل الشاب. ووفق هليفي فإن الكثير من الشبان الفلسطينيين يخرجون لتنفيذ عمليات «لأنهم يائسون من الأوضاع ويشعرون بأنه ليس لديهم ما يخسرونه. ولا تختلف تقديرات قادة جهاز الأمن والجيش عن تقديرات هليفي، وفي مقدمهم رئيس اركان الجيش غادي ايزنكوت. لكن نتانياهو يحاول تجيير هذه التقديرات لمصلحة مواقفه المعادية والمحرضة على الفلسطينيين فيلخص اسباب الوضع القائم برغبة الفلسطينيين في القضاء على اسرائيل وإبادتها. وقد حاول نقل هذه المواقف خلال لقاءاته في الولاياتالمتحدة في مقابل ابداء توجه جديد له نحو السلام وتليين مواقفه في محاولة لرمي الكرة في الملعب الفلسطيني، الا ان القرار الحاسم بوسم منتجات المستوطنات جاء ضربة في الصميم. ورده الهستيري على هذا القرار يظهر استمرار سيره في الطريق المسدود. وبدل ان يتجاوب مع بعض الأصوات والمواقف التي تحذره من أبعاد هذا القرار، باشر حرباً على الاتحاد الأوروبي، تشمل اجراءات عدة في مواجهة هذا القرار. وزارة الخارجية لم تكتف برفض اعتبار «الوسم» قراراً معادياً لإسرائيل، فحسب، انما رأت انه يشكل عثرة كبيرة أمام عملية السلام و»يعزز رفض السلطة الفلسطينية اجراء مفاوضات مباشرة مع اسرائيل». استدعت الوزارة سفير الاتحاد الأوروبي لدى إسرائيل لارس فابورغ اندرسون ل «محادثة توبيخ»، وألغت لقاءات سياسية عدة كانت مخططة للأسابيع المقبلة، بينها لقاء للجنة السياسية المشتركة، ولقاء حول حقوق الإنسان، وآخر يتعلق بالحوار مع الاتحاد الأوروبي في الموضوع الفلسطيني، والمتعلق في شكل خاص بمشاريع في المنطقة (ج). وفي خطوة قد تدخل اسرائيل في معركة أصعب مع الدول الأوروبية صادقت الكنيست، في القراءة التمهيدية، على مشروع قانون يدعو الى منع الذين يطالبون بفرض المقاطعة على اسرائيل من دخول اراضيها، حتى كسياح. وصوّت الى جانب المشروع 55 نائبًا، وعارضه 31. وقانون كهذا يعني طرد كل اوروبي من اسرائيل. وعلى رغم التحذير من خطورة هذا القانون، ليس فقط على العلاقة مع اوروبا انما على السياحة الإسرائيلية، الا ان وزراء يعملون لضمان المصادقة النهائية عليه. ووفق وثيقة وسم المنتجاب فإن الاتحاد الأوروبي لا يعترف بالسيادة الإسرائيلية خارج الخط الأخضر لعام 1967، وليس صدفة اختيار نتانياهو خلال لقائه الرئيس الأميركي باراك اوباما، طرح مطلب اسرائيلي في الحصول على اعتراف دولي بقرار ضم الجولان في شكل شرعي، وفي حال رفض هذا المطلب طرح نتانياهو بدائل بما في ذلك إبقاء الجولان منطقة منزوعة السلاح. وفي ادعاءات نتانياهو فإن الحرب في سورية وسيطرة «داعش» وتنظيمات اخرى على اجزاء كبيرة من سورية، يمكن ان تسمح لإسرائيل بالحصول على اعتراف دولي بقرار ضم الهضبة الى اسرائيل المتخذ في 1981. وفي ادعاء نتانياهو ان الهدف هو «التأكد من الحفاظ على مصالح اسرائيل في سورية الجديدة او في السوريات الجديدة»، على حد تعبيره. وهذا الموقف مطروح للنقاش في اسرائيل اذ إن قناعة بعضهم بأن انهيار سورية كدولة يجب ان يدفع إسرائيل إلى بلورة استراتيجية جديدة تجاه هضبة الجولان، وعدم الاكتفاء بخطوات عسكرية تكتيكية، مثل منع نقل وسائل قتالية من سورية إلى لبنان. وبرأي أصحاب هذه الفكرة فإنه يوجد أمام إسرائيل فرصة حقيقة، للمرة الأولى منذ نصف قرن، لإجراء حوار بناء مع المجتمع الدولي لتغيير حدود الشرق الأوسط، والاعتراف بالسيطرة الإسرائيلية على هضبة الجولان كجزء من المصلحة العالمية في استقرار المنطقة. وأنه في ظل الاتفاق النووي مع إيران، فإن على إسرائيل العمل من أجل الحصول على «وديعة أميركية» شاملة، بما في ذلك تعهد رئاسي وتشريع في الكونغرس لضمان السيطرة الإسرائيلية على الجولان. هذه الطروحات الإسرائيلية تلقت عملياً رداً رافضاً عبر قرار وسم منتجات المستوطنات اذ ان وثيقة القرار تقول في شكل واضح ان الاتحاد الأوروبي لا يعترف بحق اسرائيل في المناطق المحتلة وتشير الى ضرورة وسم منتجات المستوطنات في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وهضبة الجولان في شكل واضح، بحيث تتم الإشارة الى المنطقة الجغرافية التي جاء منها المنتج الى جانب حقيقة كونه صنع في المستوطنات، وعلى سبيل المثال يجب ان يكتب على المنتجات «منتج من الضفة الغربية (مستوطنة اسرائيلية)»، او «منتج من هضبة الجولان (مستوطنة اسرائيلية)». الفلسطينيون ضحية في محاولة منهم لكسب المعركة الدولية، يحاول الإسرائيليون إظهار الفلسطينيين كأكبر المتضررين من هذا القرار عبر التهديد بلقمة عيش آلاف العائلات الفلسطينية. ففي اول رد لنتانياهو على القرار اعلن ان العمال الفلسطينيين هم اكثر المتضررين من هذا القرار. عشرات الآلاف منهم يعملون في المستوطنات سيتحولون الى عاطلين من العمل. ورافق نتانياهو في حملته هذه رئيس المجلس الإقليمي غوش عتصيون، دافيدي بيرل، الذي قال ان القرار يمس في شكل مباشر بآلاف العائلات الفلسطينية ويضر في شكل مباشر باقتصاد السلطة الفلسطينية التي تعتمد على هذه الصناعات وتعيش منها. وراح يتحدث عن معطيات تشير الى انه في غور الأردن 14 منطقة صناعية تضم حوالى 890 فرعاً للصناعة والزراعة، ويعمل فيها حوالى 21 الف عامل، من بينهم اكثر من 15 الف عامل فلسطيني من سكان مناطق السلطة الفلسطينية. وقال «الاتحاد الأوروبي لم يتعلم من الماضي ويقود خطوات أحادية الجانب وسياسة معادية لإسرائيل، ستمس في الأساس بفلسطينيي الضفة، الذين يعملون في الصناعة المتنامية والمتطورة في إسرائيل». الواضح حتى الآن، ان الاتحاد الأوروبي يصرّ على موقفه الرافض للاحتلال الإسرائيلي في الجولان والضفة والقدس، والداعي الى تحريك العملية السلمية والتوصل الى تسوية تخرج المنطقة برمتها من انزلاق الى تدهور امني خطير.