فرضت الانتخابات العراقية متغيراتها على المشهد السياسي في إقليم كردستان فضلاً عن تلك المتغيرات التي طاولت مجمل الوضع العراقي، فيما تلقي منظومة أولويات داخل البيت الكردي وخارجه بظلالها على شكل التحالفات الكردية المستقبلية في بغداد بين اتجاه يصر على الاحتفاظ بالدور الكردي كمحطة لقاء وتنفيس للتجاذب العربي – العربي، واتجاه آخر يفضل فك الارتباط مع هذا الدور. ولا يمكن الحديث عن ممثلين فعليين لكلا التيارين، في ضوء تنوع الخطاب السياسي داخل المنظومة السياسية ل «التحالف الكردستاني» وخارجها على مستوى الأطراف الكردية التي دخلت ساحة المنافسة الانتخابية ككتلة «التغيير». ويتوقع ان ينال مجمل الأحزاب الكردية نحو 60 مقعداً في البرلمان العراقي منها نحو 42 لتحالف الحزبين الكرديين الرئيسين و18 مقعداً لقوائم «التغيير» و «الاتحاد الإسلامي» و «الجماعة الإسلامية». وهذه الخريطة قريبة من تلك التي أفرزتها انتخابات تموز (يوليو) 2009 في إقليم كردستان، لجهة تحديد أوزان القوى الكردية. لكن حفاظ تحالف الحزبين الرئيسين على وزنه يحسبه قياديون في الحزبين نجاحاً هو الآخر لجهة الجاذبية التي اكتنفت حراك حركة «التغيير»، فيما يعتبر تقدم «التحالف الكردستاني» في معقله بمدينة السليمانية عن النتائج التي حققها في انتخابات تموز، متغيراً يحسب لحزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة جلال طالباني الذي وضع ثقله السياسي والمعنوي خلال الفترة الحاسمة من الحملات الدعائية في كركوك ليجتذب أصوات معظم أكراد المدينة. وعلى رغم حديث متواتر عن تقدم في الوزن السياسي النهائي لممثلي الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني على نظرائهم في حزب طالباني، إلا أن جردة الأسماء النهائية قد لا تظهر تقدماً كبيراً يمكنه تغيير معادلة الاتفاق الاستراتيجي بين الحزبين في حال تمت إضافة وزن «الوطني الكردستاني» في بعض مناطق ديالى وصلاح الدين وكركوك. بالمقابل يثبت حزب بارزاني مجدداً تماسكه عبر تقدم ملحوظ لمرشحيه في اربيل ودهوك وسهل نينوى، ينعكس على التغيير في بنية مرشحيه الى الانتخابات حيث ترأس قائمته الانتخابية في اربيل السياسي والكاتب المخضرم سامي شورش وهو خيار يشير الى اتجاه عام نحو تطوير الرؤى والزج بقيادات اكثر ديناميكية. لكن التحدي الرئيس الذي يواجه طالباني وبارزاني فرضه زعيم كتلة «التغيير» نيوشروان مصطفى الذي سيتمتع بعشرة مقاعد برلمانية مقابل نحو ثمانية مقاعد للحزبين الإسلاميين. ويبدو الخطاب السياسي الكردي على تنوعه مجمعاً على توحيد الأطراف الكردية في بغداد مع الإبقاء على وتيرة الخلاف داخل الإقليم. غير ان توحيد المقاعد الكردية ليس هدفاً يسيراً، بل انه قد يمر بسلسلة طويلة من الخلافات والتسويات خصوصاً مع حركة «التغيير» التي لا يبحث برنامجها السياسي ما هو داخل إقليم كردستان فقط، بل يمتد الى طرح وجهات نظر وآليات حول شكل العلاقة مع بغداد. وتقارب الأحزاب الكردية في بغداد له صلة أيضاً برؤية الأطراف المختلفة الى شكل التحالفات المستقبلية التي سيخوضها المكون الكردي مجتمعاً او عبر ممثله الرئيسي «التحالف الكردستاني». والخريطة السياسية الرباعية التي فرضتها الانتخابات العراقية الأخيرة لها صلة أيضاً بالتحفظ الذي أبداه كبار القادة الأكراد حول الإفصاح عن شكل تحالفاتهم المقبلة، وفيما سارعت قيادات أخرى الى تأكيد تقارب مع قائمة المالكي في أعقاب إعلان الأخير تأييده ترشيح الرئيس طالباني لولاية جديدة، كانت قيادات أخرى تتحدث عن برامج سياسية واستراتيجيات من دون الميل الى شخصنة سياسية أو حزبية. والأصل ان دور البرلمان العراقي المقبل وأيضاً الحكومة المقبلة سيكون مفصلياً في تعقيد الأزمات المتراكمة بين بغداد واربيل أو سيفتح منافذ لحلها، فيما تجربة الأحزاب العراقية أثبتت خلال السنوات الماضية ان البرامج السياسية المعلنة انتخابياً ليست بالضرورة ملزمة للأطراف التي تبنتها في غياب آليات دقيقة للتنفيذ. ويبدو ان الاتجاه الأوسع تأثيراً في إقليم كردستان يسعى الى تكريس حكومة وحدة وطنية واسعة خلال المرحلة المقبلة، وتجنب حكومة الغالبية السياسية حتى لو كان الأكراد جزءاً منها. ومرد هذا التوجه هو قناعة بأن حل القضايا الخلافية على تنوعها ومنها المناطق المتنازع عليها وقضية النفط وصلاحيات المركز والإقليم، لن يتم من دون مشاركة جميع الأطراف العراقية في تصميم هذا الحل، على خلفية تعقيدات عراقية وإقليمية ودولية لا تسمح بفرض تسويات أحادية أو ثنائية في العراق في مسائل مصيرية. وما عدا خيار حكومة الوحدة الوطنية فإن الأكراد يواجهون خياري التحالف مع قائمتي «علاوي» و «الائتلاف الوطني العراقي»، أو التحالف مع الأخيرة وائتلاف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي «دولة القانون». وكان بعض القيادات الكردية أبدى تفضيله الخيار الثاني حتى لو كان سيقود الى حكومة تفتقر الى تمثيل وزن السنة العرب الفعلي، خصوصاً ان قائمة اياد علاوي المرشح الآخر للتحالف تضم طرفين رئيسين يخوضان الصراع السياسي «موقعياً» مع الأكراد في الموصل وكركوك فضلاً عن منافسين على منصب رئيس الجمهورية. ويطرح مثل هذا الخيار لو أقر تساؤلاً عن إمكان مساهمة مثل هذه الحكومة في حل أزمتي الموصل وكركوك، في ضوء تحول ممثلي المنطقتين الى المعارضة البرلمانية؟ والإطار الاستراتيجي الذي أسست عليه السياسة الكردية يدفع اليوم الى إعادة تكريس الدور الكردي كنقطة تلاقٍ في النزاع العربي – العربي حتى مع المختلفين مع الأكراد موقعياً، لصالح إيجاد متنفسات مستقبلية للحل. ويرجح ان تفرض آليات تسوية التحالف بين الأطراف الكردية نفسها نمطها على تلك التي ستجمع الأكراد بالقوى العراقية الأخرى، لناحية تجزئة الاتفاقات والاختلافات ونقلها الى مستويات الحوار الفعلي من دون الإخلال بنقطة التوازن التي تجمع الأكراد بالأطراف العراقية المختلفة، والتي أدى الإخلال بها خلال الحقبة الماضية الى وصول الأوضاع بين بغداد واربيل الى حافة المواجهة. وكانت انتخابات مجالس المحافظات فرضت واقعاً جديداً وجد الأكراد أنفسهم فيه في المواجهة مع سلطة الموصل الجديدة، فيما أبرزت الانتخابات الأخيرة شكلاً آخر من المتغيرات في كركوك تؤخذ جميعها في الحسابات الاستراتيجية بعيدة المدى. وشكل التسوية في الموصل وكركوك ينطلق أولاً من استعادة الثقة بين الأطراف المتباينة قومياً في المدينتين، ليضمن الانطلاق نحو الاحتكام الى الدستور ومن ضمنه المادة 140 التي تعد شرطاً كردياً أساسياً للتحالف مع الأطراف الأخرى. واستعادة الثقة ليست مهمة الأكراد فقط، بل هي مهمة العرب أيضاً، لناحية الانطلاق الى خطاب سياسي اكثر قدرة على التجاوب مع المتطلبات السياسية وعدم الاحتكام الى التصعيد. والنقطة المعقدة حيث تقف الأطراف في مناطق النزاع اليوم لا تتطلب التراجع خطوة عن سقف المطالب المرتفع لكلا الجانبين، بل قبل ذلك ترسيخ القناعات المشتركة بأن جميع الحلول المطروحة على الطاولة لن يكتب لها رؤية النور من دون استعادة الثقة والتأسيس لخاصية «التعايش» التي أسهمت سياسات النظام العراقي السابق الكارثية في الإضرار بها في شكل خطير ناهيك عن الأضرار التي خلفها الارتباك في الاستراتيجيات ما بعد سقوط هذا النظام. ويبقى التساؤل مؤجلاً في شأن نوع الخيارات والقرارات التي ستفضي الى تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، والزاوية التي سيقف فيها الأكراد وسط معادلات الحكومة الجديدة في ضوء تعقيد المشهد السياسي العراقي ما بعد الانتخابات، ونتائج الحراك الكردي – الكردي لاستعادة الخطاب الموحد.