يبدو وفق ما تحاول حكومة نتانياهو تكريسه على أرض الواقع من استيطان وتهويد وضم واستيراد مستوطنين جدد، أن ثمة حيثيات إضافية لاستغراق البعض في هذا المنحى الذي يساهم في تشويه حقيقة الصراع وأخذه بعيداً عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، من نمط تواصل عمليات اقتحام المسجد الأقصى، وطرد المقدسيين من منازلهم وسحب هوياتهم بهدف إحداث تغيير ديمغرافي حاسم لمصلحة اليهود في المدينة المقدسة، واستمرار بلدية القدس في محاولاتها هدم نحو 88 بيتاً في بلدة سلوان المحاذية للمسجد الأقصى من أجل بناء ما يسمى «حديقة الملك التوراتية» التي تأتي امتداداً لما يطلق عليه «مدينة داوود»، والسماح للجماعات اليهودية الأكثر تشدداً بدخول الأماكن المقدسة في القدس بشكل منتظم تمهيداً للانقضاض على المسجد الأقصى. إلى جانب ذلك، وفي إطار السعي لاستيراد مليون مستوطن جديد من أي بقعة كانت، تستعد حكومة نتانياهو لتهجير 7223 هندياً تدَّعي بأن أصولهم تعود إلى سلالة أحد الأسباط اليهودية (منشي)، حيث سيتم تهجيرهم إلى إسرائيل بعد تهويدهم في بلد ثالث، فيما تم الإعلان عن اكتشاف قبيلة افريقية تضم 80 ألفاً وسط زيمبابوي يزعم الإسرائيليون أنها قبيلة يهودية تائهة في الأدغال اثبت فحص الحمض النووي أصولها السامية، وأن أفرادها يمارسون طقوساً بجذور يمنية ويهودية، ويحرِّمون أكل الخنزير ويتعاطون أطعمة «كوشير» ويختنون الأطفال!! هذه التجليات العدوانية الإسرائيلية ترسم سعي الصهيونية الدائم إلى التوكؤ على البعد الديني ومادته البشرية، ومحاولتها تحويل نفسها إلى قومية على غرار الدول - الأمم القومية الأوروبية التي برزت في العصور الحديثة، على رغم اختلاف الإثنيات التي يتكون منها النسيج المجتمعي الإسرائيلي، ناهيك عن الهرولة الواسعة نحو مواقع وشعارات اليمين الصهيوني والمتدين، ومحاولة إعادة الروح إلى الحلم التوراتي المتعلق بما يسمى «إسرائيل الكبرى»، بعد تلاشي ما سمي قوى «اليسار الإسرائيلي» الذي يعتقد البعض أنها لم تكن أكثر من مجرد قوى وهمية، وذلك في مقابل ازدياد عدد المتدينين المتشددين في الجانب الفلسطيني (والعربي). وهذا لا يقتصر، وفق هذا التقدير، على قوى الإسلام السياسي المعروفة كحركات «حماس» و «الجهاد الإسلامي» و «حزب الله» وسواها، وإنما يمتد نحو البؤر والنتف التنظيمية المتشددة التي تتكاثر كالفطر في العديد من المناطق العربية، ولا سيما في مستنقعات الفقر والجوع من نمط قطاع غزة الذي تتفاوت قوة الجماعات السلفية فيه بين جماعتي «جند أنصار الله» و «جيش الإسلام» اللتين يعتقد أن عدد أعضائهما يصل إلى عدة مئات، وجماعات صغيرة لا يتعدى عدد أعضائها العشرات. بعضها حليف سابق ل «حماس» أو يشمل أعضاء سابقين في الحركة انقلبوا عليها في ما بعد. بطبيعة الحال، يمكن محاججة هذه الحيثيات وسواها وتفنيد خطلها ووظيفتها المفترضة، بمداخلات مطولة مستندة إلى الواقع الملموس، غير أن المتاح من المساحة لا يسمح إلا بومضات خاطفة، لعل أهمها هو أن الصراع مع الإسرائيليين ما زال صراعاً وطنياً وقومياً جوهره اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخرين مكانه تحت راية الصهيونية التي تحتضر بشهادة الجميع بعد فشلها في ردم الهوة بين الماضي الأسطوري المستحيل والحاضر الواقعي الممكن، وأن البعد الديني في هذه الإيديولوجيا فرضته الحاجة الماسة لتوفير المادة البشرية لمشروع الدولة الوظيفية التي قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال زيارته الأخيرة المنطقة، إنه لا يوجد أي فجوة بين بلاده وبينها حيال كل ما يتصل بأمنها، رغم استقبالها له بالإعلان عن بناء أكثر من مئة وحدة استيطانية في الضفة الغربية. ويكفي الإطلال على واقع اليهود وتوجهاتهم في إسرائيل والعالم لاكتشاف مستوى التضليل في قضية «الصراع الديني»، حيث تشير المعطيات إلى أن نحو نصف مليون «إسرائيلي» فقط هم من الأصوليين، وأن أكثر من ثلث الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي السابق في أوائل التسعينات هم من غير اليهود، أي نحو 250 ألف شخص، وأن أقل من 300 ألف فقط من يهود الولاياتالمتحدة يرون أنفسهم ك «يهود حقيقيين»، فيما يصل عدد المتحدرين من والدين يهوديين هناك إلى نحو مليون وعدة مئات من الآلاف فقط. ويمكن القياس على ذلك في دول أوروبا الغربية والشرقية. ومع الاعتراف بتنامي البعد الإقليمي للصراع، على حساب البعد الوطني الفلسطيني بعد التطورات الدولية والإقليمية التي راكمت الخوف الإسرائيلي من عدم القدرة على الصمود والثبات في وجه التحديات الداخلية والخارجية، ودفعت أقصى رموز العنصرية والتطرف والعدوانية، الساعية إلى إعادة إنتاج ما يسمونه «الروح القومية» بكل الوسائل المتاحة، إلى سدة السلطة في الدولة العبرية، إلا أن ذلك أدعى إلى إعادة اللحمة للجسد الجغرافي والسياسي والوطني الفلسطيني، وتشكيل ثقل نوعي في المديين العربي والإسلامي اللذين لم يحركا ساكناً حيال عمليات تهويد الأماكن المقدسة في القدس والخليل، واكتفيا بمتابعة احتجاجات أهل المدينتين المنكوبتين وجوارهما وبعض المناطق الفلسطينية الأخرى * كاتب فلسطيني.