في ربيع 1882، أرسل والي حلب عارف باشا رجال الشرطة إلى منزل المفكر النهضوي عبدالرحمن الكواكبي، حيث ادعوا أنهم وجدوا بين أوراقه ورقة صغيرة تفيد بأنه يخابر بريطانيا العظمى ليسلمها البلاد. واتُّهِم الكواكبي بالتخابر مع دولة عدوة، فحكمت عليه محكمة عثمانية سورية بالإعدام. استأنف الكواكبي الحكم، وطلب نقل المحاكمة إلى بيروت، وقام بالترافع عن نفسه، حيث أصدر قاضي بيروت حكماً ببراءة الكواكبي، بعد أن تبين أن الورقة كانت مزورة ومدسوسة بين أوراق المفكر الكبير. أطلق سراح الكواكبي، ولكن المفاجأة كانت في اللحظة التي وصل الكواكبي إلى حلب، تلقى الوالي قراراً من الآستانة بعزله. أريد أن أستنتج من هذه القصة ثلاثة دروس. الأول هو أن القضاء في تلك المرحلة، التي من المفترض أنها كانت مرحلة مظلمة من تاريخ سورية والمنطقة، كان قضاء نزيهاً ومستقلاً إلى حد كبير، وكان ثمة إمكان لاستئناف الأحكام، ونقضها، بسبب نوع من استقلالية القضاء أمام السلطة السياسية، وهو ما يفتقده معظم الأنظمة القضائية في العالم العربي، حيث القضاء أداة بيد السلطة التنفيذية مثله مثل الشرطة والجيش والأجهزة التفتيشية الإدارية. الدرس الثاني أن السلطة المركزية انصاعت للمناخ الذي خلقه قرار القضاء. وعلى رغم أن القاضي لم يأمر بعزل الوالي، إلا أن الباب العالي لم يجد من المناسب إبقاء واليه في حلب، بعد الخزي الذي أصابه بسبب حكم القضاء الجريء. أما الدرس الثالث، وهو ما سوف أركز عليه هنا، فهو استسهال تهمة العمالة والتخابر مع العدو. فهذه هي التهمة الجاهزة لدى السلطات في هذه المنطقة ربما منذ أيام الفراعنة الذين اتهموا بعض المصريين بالتخابر مع الهكسوس. وما مثال الكواكبي إلا واحد من آلاف الأمثلة على اتهام معارضي السلطات في هذه المنطقة من العالم بالتخابر مع دولة عدوة، فقط لأن المعارض لا يشاطر الآراء السياسية نفسها مع الحكومة ويطمح إلى إحداث إصلاحات حقيقية في بلده الذي لا يحبه أقل من حب الحاكم له. على أن الأمور يمكن أن تكون أسوأ من ذلك. فعندما يتم استسهال تهمة التخابر والعمالة، لتصل إلى مستويات دنيا في الهرم السلطوي، يكون الأمر قد انتقل من المأساة إلى المهزلة. ولسوف يوضح بعض الأمثلة ما أريد أن أذهب إليه ههنا. ففي دمشق، شنَّ رئيس اتحاد الكتاب السوريين الدكتور حسين جمعة (في جريدة الحياة، 7 آذار / مارس، 2010) هجوماً ساحقاً ماحقاً على جائزتي بوكر العربية ونجيب محفوظ التي تنظمها الجامعة الأمريكية، ووصف الجائزتين بأنهما مشبوهتان، وأن «جهات صهيونية تشرف عليهما»، كما اتهم الرجلُ المسؤولُ عن رقاب الكتاب في سورية وإبداعهم، المبدعين الفائزين بتلك الجوائز بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل، وبأنهم يكتبون أعمالاً لتلبية أغراض خبيثة لأصحاب تلك المؤسسات، ثم استنتج بسرعة – لا عجب في ذلك – أنه تجب محاكمتهم. واستند رئيس الكتَّاب السوريين في رأيه على معطيين بديهيين، فجائزة نجيب محفوظ تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة التي «تدرس في مناهجها رواية الخبز الحافي» للروائي المغربي الراحل محمد شكري، وهذه بحد ذاتها كبيرة لا تغتفر، وقد وصفها جمعة بأنها «منحرفة وشاذة»، وهذا سبب كافٍ ووافٍ لكي يأخذ الرجل موقفاً ضد هذه الجائزة المشبوهة، ولكنه، ولكي يعزز موقفه أكثر، فقد اكتشف أن هذه المؤسسة ترعى «ثقافة الجنس» ملمحاً بذلك إلى إحدى الروايات الفائزة بجائزة نجيب محفوظ في دورتها الأخيرة. ويضيف: «إن الكتّاب السوريين كتبوا رواياتهم التي تلبي النيات الخبيثة لأصحاب تلك المؤسسات». ولكن مسيرة العار لا تقف هنا، بل إن كاتبات سوريات، لا يسميهن، «سرن على الطريق ذاته أملاً في الشهرة والمال». أما جائزة بوكر فمهاجمتها أسهل من جائزة نجيب محفوظ. فهي أولا تحمل اسماً أعجمياً وليس اسماً عروبياً خالصاً. وثانياً فإنها تصدر عن معهد «فيدنفيلد» للحوار الاستراتيجي هو الذي يشرف على البوكر العالمية، وهو (ولا أدري إن كان يقصد المعهد أم مؤسسه لورد فيدنفيلد) «صهيوني، نمساوي الأصل»، وأما من اخترع النسخة العربية من «البوكر»، فهي ساشا هافليك، وهي كذلك «صهيونية تدير برامج في مجالات مقاومة الأصولية»، بحسب معلومات جمعة. (وهنا لا بأس من التذكير بأن الدكتور جمعة هو رئيس اتحاد الكتاب الذي فصل يوماً ما أدونيس من عضويته، ثم اشترط عليه، في حال طلب العودة إلى الاتحاد، التوبة والتخلي عن الخط الذي تبناه. وقد أدت إقالة أدونيس وقتها إلى استقالة طوعية تضامنية من قبل الروائي حنا مينا والكاتب المسرحي الكبير الراحل سعدالله ونُّوس، كما لا بأس من التذكير بأن الدكتور جمعة هو الذي أثار زوبعة من النقد عندما نفى صفة الإبداع وحتى صفة «كاتب» عن سعدالله ونُّوس نفسه). ولا يقف جمعة وحيداً في الساحة، فها هي كاتبة سورية أخرى هي ناديا خوست وهي كاتبة يسارية جداً ومن أوابد اتحاد الكتاب، نشرت أكثر من مقال لتهاجم جائزة بوكر للرواية العربية، لأنها تدعو إلى التطبيع مع «العدو الصهيوني». ودليلها على ذلك وصول رواية «السيدة من تل أبيب» للكاتب الفلسطيني ربعي المدهون إلى القائمة القصيرة لهذه الجائزة، باعتبار أن هذا «العنوان المريب» يروج لعاصمة العدو المحتل. لا أعرف الكثير عن جائزة نجيب محفوظ، ولكن جائزة بوكر فاز بها (ورشح إلى الفوز بها) عدد من الروائيين العرب الذين لا يجوز بحال من الأحوال اتهامهم بالعلاقة المشبوهة مع أي دولة ما عدا أوطانهم. وينطبق هذا القول على الفائزين الثلاثة بالجائزة خلال الأعوام الثلاثة الفائتة: بهاء طاهر ويوسف زيدان وعبده خال، كما ينطبق بالقدر نفسه على جميع من رشحت رواياتهم لهذه الجائزة، ومنهم السوريان المبدعان خالد خليفة وفواز حداد، إضافة إلى محمد أبو معتوق ومحمد البساطي وربيع جابر وعبدالكريم الجويطلي ورينيه الحايك والحبيب السالمي وإنعام كجه جي وإبراهيم الكوني وغيرهم. هذا من جانب الكتاب، أما من جانب المحكمِّين، فإن أحداً لا يملك الحق في التشكيك في نزاهة شمعون صموئيل من العراق وطالب الرفاعي من الكويت، والباحثة رجاء بن سلامة من تونس، والناقد المغربي محمد برادة، والشاعر المغربي محمد بنيس، والكاتب والناقد الفلسطيني فيصل دراج، والكاتب والمستعرب البريطاني بول ستاركي، والكاتبة والصحافية السورية غالية قباني، والكاتب والأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب، والناشر السوري رياض نجيب الريس، على سبيل المثال لا الحصر. لا يدرك رئيس اتحاد الكتاب السوريين ولا السيدة خوست أن إلقاء التهم جزافاً أسهل من التدقيق فيها، كما لا يدركان أنه لم يعد من الجائز بعد الآن احتكار الوطنية كما يحتكر التجار مادة السكر أو الزيت، ثم يوزعونها بالقطارة، أو كما يوزع القادة أوسمة النصر على أتباعهم. ولكنهما يدركان أنه ليس ثمة من يحاسبهما على الاتهامات التي يلقيانها جزافاً بحق كاتبات وكتاب عرب، همُّهم الدفع بواقع العرب إلى الأمام بينما يتشبث غيرهم بهذه البلاد لتثبيتها على حالها أو ربما لدفعها إلى الوراء. تماماً كما لم يعد من الجائز الانعزال عن العالم بحجة أن الآخر معادٍ، أو صهيوني، أو كافر. في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، وجه أحد موظفي الاتحاد الكتاب السوريين إياه التهمة نفسها إلى الصحافيين السوريين الذين يعملون مراسلين لوسائل إعلام عربية ولا «يجيدون الكتابة إلا عن الأذيات التي تصيب الأشخاص والمعاني»، وأمطرهم بوابل من الصفات الشخصية وبأنهم لا ينشرون إلا الأشياء «التي تطفح بالسوداوية والأسى العميم»، وتقوم على «التقول والفبركة والإثارة». وبنوع من التذاكي، يستخدم الرجل مصطلح «المخبر الصحفي» لخلق التباس مقصود ذي بعد سلبي لدى القارئ الذي يربط كلمة «مخبر» ببعدها الأمني لا ببعدها المهني. ثم يخلص بعد كل ذلك إلى سحب صفة الوطنية من هؤلاء المراسلين إذ «يغدو الواحد منهم كائناً لا علاقة له بالإنسانية ولا بالوطنية». وهو ما كان ليجرؤ على سحب الوطنية من هؤلاء الصحافيين إلا لأنه يظن أنه هو صاحب الحق في منحها أساساً، وبالتالي فهو مخول بسحبها ممن لا يستحقها. وقبل أيام وجه كاتب لبناني هو ماهر أبي نادر كتاباً مفتوحاً إلى وزير التربية اللبناني حسن منيمنة، يدبُّ من خلاله الصوت محذراً من أن رئيس وزراء بريطانيا السابق «توني بلير يغزو مدارسنا» من خلال ندوة نظمتها «مؤسسة توني بلير» في احد فنادق العاصمة بيروت تحت شعار «وجهاً لوجه مع الإيمان،» هدفها تدريب المعلمين على طرق حديثة في التعليم من خلال حوار الحضارات والأديان والثقافات. وفي الصومال حظر إسلاميون صوماليون متشددون تدريس اللغة الإنكليزية والعلوم في مدارس الصومال. وتم إمهال ثلاث مدارس مدَّة شهر لتنفيذ أمر أصدره متمردو «حركة شباب المجاهدين» لتغيير المنهج الدراسي بحيث يتضمن تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية فقط. وأفتى المجاهدون بأن «كل من سيكون جاسوساً للحكومات الغربية يتعلم هذه اللغة». وجميعنا يذكر كيف قامت ميليشيا طالبان في أفغانستان طالبان، بأمر من القائد الملا عمر وبدعم من الشيخ أسامة بن لادن في ربيع 2001 بتحطيم أكبر تمثالين لبوذا في العالم، مدمرة بذلك إحدى الموروثات الحضارية العالمية التي تعود إلى عصور مغرقة في القدم تدل على قدم تاريخ أفغانستان وأصالته، وذلك قبل أن يرسل الشيخ بن لادن فرسانه في خريف ذلك العام لتنفيذ غزوة نيويورك، التي لم أسمع بالمناسبة أن اتحاد الكتاب العرب قد أدانها. بات من الضروري أن نصل جميعاً إلى قناعة بأن الوطن هو بالتساوي لجميع أبنائه، وبالتالي فلا يمكن لجهة ما أن تكون وصيَّة عليه، وهي بالتالي غير قادرة على أن تمنح شهادات في الوطنية كما كانت الكنيسة تمنح صكوك الغفران في القرون الوسطى. فالعالم قد تجاوز القرون الوسطى منذ ستة قرون، وإذا كان ثمة من لم يسمع بذلك بعد، فهذا شأنه، أما شأننا نحن فهو أن نطالبه بأن يدع الوصاية علينا، وأن يتركنا نتنفس الهواء بحرية. * كاتب سوري