ثمة خيط قد يكون رفيعاً لكنه ذو مغزى يربط اغتيال القيادي في «حماس» محمود المبحوح في دبي، وضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال إلى قائمة المواقع الأثرية الإسرائيلية، وتكثيف زيارات اليهود المتطرفين الاستفزازية إلى المسجد الأقصى. فهذه القرارات والتوجهات، التي يحقق كل منها هدفاً محدداً مطلوباً لذاته، يجمعها سعي إسرائيل إلى استدراج الفلسطينيين إلى ردود فعل عنيفة تسيء إليهم دولياً، وتساعدها في محاولة تحسين صورتها التي أصابها العدوان على قطاع غزة بكثير من الأذى. فلم يكن تقرير لجنة الأممالمتحدة برئاسة القاضي غولدستون وحده هو الذي أظهر الاستياء غير المسبوق تجاه إسرائيل. فكثيرة هي المؤشرات الدالة على أن مستوى التأييد الذي تتمتع به في العالم آخذ في الانخفاض، بعد أن أصبحت صورتها مقترنة بجرائم حرب مؤلمة. ولا يمكن الاستهانة بوضع يخشى في ظله بعض كبار السياسيين الإسرائيليين، وليس فقط العسكريون، الذهاب إلى دول أوروبية كانوا يعتبرون بعضها ملاذاً وسنداً وليس فقط حليفاً. ويتزامن ذلك مع ازدياد تعاطف الرأي العام في كثير من هذه الدول، وفي غيرها، مع الفلسطينيين سواء الخاضعين لحصار خانق في غزة أو الرازحين تحت نير احتلال لا تبدو له نهاية في الضفة. وإذ يحدث هذا كله في الوقت الذي يزداد انكشاف مسؤولية إسرائيل عن غلق الطريق التي يمكن أن تؤدي إلى حل سلمي بسبب إصرارها على التوسع الاستيطاني، لا بد أن يشتد قلقها من عزلة دولية ربما لا تستطيع تجنبها. ولا تكفي مساندة الإدارة الأميركية ومعظم حكومات الدول الأوروبية لها وتغاضيها عن انتهاكاتها المتواصلة لتخفيف هذا القلق. وإذا كان صعباً عليها تحسين صورتها التي تزداد قتامة عبر تغيير في سياساتها، ما دامت حكومتها الحالية مصرة على شروطها، فليس أمامها إلا أن تسعى لاستدراج الفلسطينيين إلى ما يسيء إلى صورتهم. ولعل أكثر، وربما أيضاً أسرع، ما يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة هو التركيز على البعد الديني في الصراع، على حساب الطابع الوطني التحرري. فالتعاطف الذي يزداد مع الفلسطينيين يرتبط بهذا الطابع كونهم يناضلون من أجل تحرير وطنهم مثلما فعلت قبلهم غالبية شعوب العالم، بما في ذلك شعوب أوروبية ذاقت مرارة الغزو النازي في القرن الماضي على رغم أن دولها كان لها باع طويل في تاريخ الغزو الاستعماري. فإذا نجحت إسرائيل في إظهار الفلسطينيين في صورة من ينتفضون لأهداف دينية، وتمكنت دعايتها من عزل هذه الأهداف عن السياق الوطني العام لنضالهم، فليس مستبعداً أن يختلط الأمر على كثير ممن يتعاطفون معهم، وقد جربت إسرائيل ذلك من قبل عندما استغلت لجوء الفلسطينيين إلى أسلوب القنبلة البشرية، الذي أطلقوا عليه «عمليات استشهادية»، لوصمهم بالإرهاب واتهامهم بشن حرب دينية عليها. كما كان للاسم الذي اختاروه لانتفاضتهم السابقة (الثانية) وهو «انتفاضة الأقصى» مكان بارز في الدعاية الإسرائيلية التي نجحت في تشويه نضالهم وتمكنت من إقناع فئات لا بأس بها في المجتمع الدولي والرأي العام العالمي بأنهم يقاتلونها لأسباب دينية. وما أن يحدث ذلك حتى يفقد نضالهم طابعه الوطني التحرري ويكفوا عن أن يكونوا ضحايا في نظر هذه الفئات، التي لا تلبث – والحال هكذا – أن تساوى بينهم وبين الجناة. فتكون الصورة عندئذ لطرفين في حال صراع ديني وليس لطرف يحتل أرض الطرف الآخر ويقهره. وتجيد إسرائيل استغلال الهوية الدينية لحركة «حماس» في سعيها إلى طمس الطابع الوطني لقضية فلسطين. ولعل هذا يفسر استهدافها لأحد قادة هذه الحركة من دون حرص كاف على عدم ترك أي أثر يدل على دور «الموساد» في اغتياله. فقد أرادت إسرائيل استفزاز «حماس» لدفعها إلى الخروج من حال التهدئة التي حافظت عليها منذ العدوان على قطاع غزة، في الوقت الذي سددت ضربتها المثيرة لمشاعر الشعب الفلسطيني عبر ضم الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال في بيت لحم إلى مواقعها الأثرية ثم عمدت إلى تصعيد الصراع على المسجد الأقصى. وعلى رغم كثرة التصريحات التي صدرت عن بعض قادة «حماس» رداً على اغتيال المبحوح، ركزت الدعاية الإسرائيلية على دعوة إسماعيل هنية إلى «انتفاضة ثالثة». كما أبرزت تحذير رئيس السلطة محمود عباس من نشوب حرب دينية. وربطتهما بتصاعد المواجهات في الضفة الغربية والقدس وتنظيم مسيرات حاشدة في قطاع غزة. والهدف هنا محاولة إعطاء انطباع للعالم بأن الفلسطينيين لا ينتفضون إلا لأسباب دينية أو على خلفية صراع ديني. فقد نشبت الانتفاضة السابقة التي حملت اسم الأقصى عقب اقتحام أرييل شارون وأنصاره المسلحين المسجد الأقصى في شكل استفزازي في أيلول (سبتمبر) 2000. وعلى رغم أن ذلك الحدث لم يكن إلا العامل المباشر الذي أطلق غضباً تراكم في شكل يومي منذ فشل مفاوضات الحل النهائي (كامب ديفيد -2) في تموز (يوليو) من العام نفسه، كانت الصورة التي شاعت في ذلك الوقت هي أن الفلسطينيين انتفضوا من أجل المسجد الأقصى. ولم يدرك كثيرون في العالم أنها انتفاضة وطنية في المقام الأول، مثلما لن يفهموا من تلقاء أنفسهم أن احتجاج الفلسطينيين في شأن الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال، وحرصهم على المسجد الأقصى، إنما هو نضال ضد سياسة استعمارية استيطانية، وليس فقط من أجل مواقع دينية. وهذا ما ينبغي أن يعيه الفلسطينيون سلطة (أو سلطتين) وفصائل وقادة، وأن يحرصوا على شرحه وتوضيحه في كل تصريح أو بيان أو خطاب من دون كلل. وليتهم يعرفون أنهم خاسرون لا محالة إذا لم يفعلوا، وأن خسارتهم مؤكدة إذا واصلوا خطاب التلويح بانتفاضة ثالثة في هذه اللحظة تحديداً والتحذير من حرب دينية. وقد يكون مفيداً أن يبادر الرئيس عباس الى تصحيح ما قاله عن الحرب الدينية أمام البرلمان البلجيكي في 23 شباط (فبراير) الماضي، وكرره في زيارته الأردن في 28 من الشهر نفسه، على رغم أنه لم يقصد إلا التنبيه إلى أن إسرائيل تفتح الطريق أمام مثل هذه الحرب. ولا يقل فائدة أن يكف قادة «حماس» عن حديث الانتفاضة الثالثة التي يعرفون أن مقوماتها ليست متوافرة الآن حتى لا ييسروا مهمة الدعاية الإسرائيلية التي تسعى إلى «تديين» الصراع والإيحاء بأن دوافع الفلسطينيين دينية مناطها العداء لليهود، لأن هذا هو سبيلها الوحيد الآن لوضع حد للتعاطف معهم وتحسين صورة اسرائيل التي لم تكن في مثل هذه الدرجة من القبح في أي وقت مضى.