بات ساري حنفي، الأستاذ الفلسطينيّ في الجامعة الأميركيّة ببيروت، آخر الضحايا في قائمة ب «صيد الساحرات» طالت وتشعّبت. وحنفي، لعارفيه كما لقرّائه وطلّابه، وطنيّ فلسطينيّ متحمّس وناشط، صلب العداء لإسرائيل وللصهيونيّة. لكنّه، مع هذا، ارتكب «كبيرة» إذ أعدّ كتاباً شاركه إعداده إسرائيليّان يشاطرانه مواقفه وعواطفه السياسيّة، كما حصل كتابهم الجماعيّ على تمويل وفّرته مؤسّسة «فان لير» البحثيّة الإسرائيليّة. ولربّما توقّع حنفي أن يُحتفى به كواحد من رموز التفنيد للدولة العبريّة وعقيدتها. لكنْ لا. فقد اصطدم بحاجز طيّار على شكل بيان وقّعه عشرات الأكاديميّين في الجامعة الأميركيّة، يدين بشدّة ويطالب بمعاقبة المرتكب، معيداً الاعتبار إلى «الثوابت الاستراتيجيّة» في ما خصّ التطبيع. ذاك أنّ حنفي ذهب بعيداً، وهو مربوط القدم: فهو ليس من أخصّائيّي الصراع المسجّلين حصريّاً، ولا من أبناء العائلات التي ما إن تُذكر حتّى تُذكر فلسطين ويصير الحقّ في تمثيلها تلقائيّاً، كما أنّه ليس ممن يملكون القدرة على تغطية السموات بالقبوات، جرياً على نهج شهير في المشرق العربيّ يجمع بين الاتّصال والانفصال وبين الإقبال والإدبار. إذاً لا بدّ من قَرصة أذن موجعة، أو إنزال ألم يدمغ الجسم، كالتسريح المرفق بالتشهير، يكتوي بناره مَن يجرؤ على مبارحة القطيع. لكنّ حنفي ربّما فكّر بطريقة أخرى. ربّما ظنّ، عملاً بتقليد يساريّ بات آفلاً، أنّ المطلوب توسيع دائرة الأصدقاء كي يحاصر بهم العدوّ، أو البناء على مصالح وروابط مشتركة عابرة للقوميّات والأديان درج الشيوعيّون واليساريّون عموماً على وصفها ب «الأمميّة». ولربّما تحكّمت عقلانيّةٌ ما بسلوك حنفي، حملته على قبول أيّ مال ما دام يموّل كتاباً يحاكم إسرائيل محاكمة قاسية، فكيف إذا كانت مؤسّسة التمويل هذه هي التي عمل فيها بعض المشهود لهم بالوطنيّة الراديكاليّة، وهي التي ساهمت في تمويل أفلام سينمائيّة تحتلّ موقعها في التأريخ الوطنيّ لفلسطين؟ وهذا تقليد، لا نبتة برّيّة بلا سوابق. فمن هذا المنطلق نشأ، ذات مرّة، حزب شيوعيّ عربيّ – إسرائيليّ، ثمّ ولدت حركات ك «ماتزبن»، مناهضةٌ للصهيونيّة، موصولة بهموم العرب ممّن يناوئون الخصم نفسه. ومن هذا التقليد أنّ عرباً وفلسطينيّين دعوا، ذات مرّة، إلى «دولة ديموقراطيّة علمانيّة» يتعايش فيها العربيّ واليهودي. آنذاك كان النقد الموجّه لمحاولات كهذه يصدر عن جهات متزمّتة على طرفي النزاع. ومن جهتنا، نحن العرب، كان اللاساميّون على أنواعهم، القوميّون منهم والإسلاميّون، هم الذين يعترضون: إمّا بالعنف اللفظيّ أو بالعنف الماديّ حين يتيسّر ذلك. أغلب الظنّ أنّ التقليد اليساريّ هذا، بصرف النظر عن الرأي فيه وفي جدواه، آل إلى زوال. فاليسار، الذي ربّما استنسخ حنفي وعيَه أو استعار مراميه، بات فصائل مبعثرة ملحقة بأصحاب الوعي الشعبويّ، الدينيّ وشبه الدينيّ ممّن أطلّوا على الدنيا كأعداء للشيوعيّة ولليسار قبل أيّ شيء آخر. والاستقالة اليساريّة كما الوراثة الشعبويّة تنسحبان على العالم العربيّ انسحابهما على البلدان الغربيّة، ولو تعدّدت الأشكال والصيغ. فهناك أيضاً غدت الراديكاليّة القديمة مدفوعة بطموح لا يتعدّى انتزاع حصّة في التنظير للحركات الإسلامويّة أو في البحث عن أعذار لها. وهو تحوّلٌ سارت في موازاته تحوّلات أخرى، في عدادها أنّ الرموز حلّت محلّ المعاني. هكذا صارت معارك الحجاب والهويّة، وأعمال كإحراق مطعم ل «ماكدونالدز» هنا أو مهاجمة مقهى ل «ستار بكس» هناك، بديل المسائل المتّصلة بالعمل والتعليم والسكن. وفي محلّ التأسيس لسياسات تعبر الحدود الدينيّة والإثنيّة، شرعت تحلّ سياسات الفرز والعزل، حيث يُراد للنقاء الذاتيّ ألّا يلوّثه «آخر» حتّى لو كان حليفاً. كذلك بدأت النسبيّات الثقافيّة تفعل فعلها، لا سيّما منذ نزلت بالعلوم الاجتماعيّة والسياسيّة نازلة كتاب «الاستشراق»، أواخر السبعينات. وعلى النحو هذا تمّت عسكرةٌ للمعارف والثقافات تنفي عنها كلّ حياد عن الصراعات الفعليّة والماديّة، فتُلحق بعضها بالخصم السياسيّ والعسكريّ كما تجلّ بعضها الآخر تبعاً لقيمته السياسيّة وتموضعه الأيديولوجيّ. وفي كنف اتّجاهات كهذه، وُضعت جانباً فكرة التواصل الاجتماعيّ التي تبني أمماً ومجتمعات، لتسود أفكار الفصل والتبعيد التي تحاذي خرائط الجماعات أدياناً ومذاهب وإثنيّات. هكذا عُمّم احتمال الحروب الأهليّة، أو غدا يلازم كلّ تناول للشأن العامّ. وعلى النحو إيّاه، استُحضرت الثقافة لتكون أداةً للتطهّر الذاتيّ إذ هي السلاح الأكفأ لزمن «الهويّات» المغلقة، والأقدر على أداء هذا الدور من السياسة والاقتصاد وسواهما. وبما يلائم الاحتجاج على التنوير، وعلى النزعة الكونيّة، وعلى الفضائل المنسوبة إلى حملة نابوليون (أو إلى اكتشاف أميركا)، صير إلى شعبَنَة مفهوم «العنصريّة»: فهذا الأخير لم يعد زعم الاختلاف الجوهريّ في القابليّات، بل أمسى يعني الثقافات المتفاوتة في طاقتها الاستعماليّة، مع العلم بأنّ أصحاب هذا الفهم السخيّ للعنصريّة لا يستخدمون من الوسائط والتقنيّات المعرفيّة إلّا ما أُنتج في حضن ثقافة بعينها، هي الغربيّة حصراً. كذلك تراجع الكلام في الاقتصاد والتبعيّة وغير ذلك ممّا عجّ به القاموس اليساريّ التقليديّ، ليُستبدَل بالصرخات المتواصلة ضدّ «التطبيع» و «الغزو الثقافيّ» في ظلّ الرايات الخفّاقة ل «حماس» و «حزب الله». واقع الحال أنّ البذرة القَبَليّة التي تسكن التوتاليتاريّة الحديثة ظهرت هنا أيضاً. فالتيوتونيّ الجديد، مثل القديم، يأخذ «الآخر» ككلّ واحد، ولا يريده إلّا كذلك كيما يبرّر بها واحديّته هو. ولمّا كان يفتقر إلى السلطة التي امتلكها التيوتونيّ القديم، لا سيّما سلطة القتل والإبادة، استبدلها بسلطة المقاطعة التي لا يملك ما هو أكثر منها. ف «نحن» لا نريد أحداً «منهم» حتى لو كان «معنا»، ولو كان مستعدّاً للذهاب إلى أبعد نقطة في الأرض تصدّياً لجدار الفصل ولسرقة الأرض والمياه وتجريف البيوت والشجر، فضلاً عن قهر السكّان وامتهانهم. فوق هذا يتشابه التوتاليتاريّ - القبَليّ الذي يحكم ومثيله الذي لا يحكم في أنّ الوشاية تلعب في الحالين دوراً بارزاً: ففي الأولى، يتأسّس عليها نظام وبيروقراطيّة كاملان، وفي الثانية تلوح شهوة مقموعة يظهر الدم في عينيها في انتظار أن ينشأ لها نابان يقطران دماً: فهذا كتب مع إسرائيليّ، وذاك صافح إسرائيليّاً. وإذا ما خفيت «الجريمة» عن النظر، فتّشنا في «اليو تيوب» وعدنا بالزاد الذي نبني به «الملفّ» الصالح. وغنيّ عن القول إنّ أخلاق الوشاية في البيئة الأكاديميّة والبحثيّة، أو في البيئة الثقافيّة، معطّلة للعقل، شالّة للمبادرة، تلتقي مع أسوأ أشكال التحريم والتكفير الدارجة في حياتنا الراهنة. لكنّنا نحن، غير الممسوسين، يقف وراء ميلنا التطهّريّ هذا شعور داخليّ عميق نحاول إنكاره، هو أننا في وضع لا نُحسد عليه. وشعور كهذا هو ما حمل أسلافاً لنا راحلين على اجتراح حملات لإحراق الكتب أو ل «النقاء الروحيّ» وتعقيم الجامعات، تبعاً لاهتزاز اليقين بقدرة السلطة ولو كانت في اليد. وهذا ابن زمنه فعلاً. فحين توصف العولمة بإحداث الوصل والفصل في وقت واحد، وحين توصف الأصوليّة بدمج روح القدامة وأشكال الحداثة في رزمة واحدة، فهذان وصفان لا يصحّان كما في المقاطعة الأكاديميّة أو الإبداعيّة. هنا أيضاً يندمج الأعلى والأدنى! والحقّ أنّ مفهوم المقاطعة ذاته لم ينجُ من تأثيرات ذاك التحوّل: فالمفهوم المذكور اقتصاديّ أساساً، والتعريف هذا لازم معناه في عديد المحطّات التي شهدها، من مقاطعة المستوطنين الأميركيّين شراء السلع الإنكليزيّة بعد 1765، إلى المقاطعة الصينيّة للسلع الأميركيّة في 1905، ومن مقاطعة الهنود، بقيادة المهاتما غاندي، شراء السلع الإنكليزيّة، انتهاء بالمقاطعة التي فُرضت على جنوب أفريقيا العنصريّة. وبدءاً من 1956 بدأت المقاطعة تطاول الرياضة التي راحت تتحوّل مصدر ربح وفير، فضلاً عن كونها دعاية وطنيّة من النوع السهل والفولكلوريّ (العلم، النشيد الخ). هكذا قوطعت عامذاك، للمرّة الأولى، الألعاب الأولمبيّة في جنوب أفريقيا. وقد يقال إنّ المقاطعة الاقتصاديّة نفسها لم تعد مجدية في زمن العولمة، فكيف بالمقاطعة الثقافيّة التي هي هرطقة هذه الحقبة الشعبويّة؟ لقد جرّب المعمدانيّون الجنوبيّون في الولايات المتّحدة، عام 1997، مقاطعة ديزني، لأنها تنقل عوالم المثليّة والعنف بما «يناوئ المسيحيّة والعائلة». كذلك جرّبت الجامعة العربيّة في وقت أبكر، فاستعارت قائمة الأفلام التي منعتها المكارثيّة في أميركا الخمسينات وطبّقتها على الأفلام و... علينا. وهذه أمثلة لا تجدي ولا تشرّف في وقت واحد. فحين يُتّهم وطنيّ فلسطينيّ، كساري حنفي، بكسر المقاطعة، فهذا لا يعني إلّا أنّ المقاطعة باتت لزوم ما لا يلزم. هكذا يتبدّى كيف أن الأمر ممّا يستحيل ضبطه، وممّا تعجز الوشاية و «العقاب» عن ذلك، لأنّ البشر تستهويهم الحريّة، وهم في هذا يقلّدون سيولة الحياة وغناها، خصوصاً متى كان الحيّز الثقافيّ هو المعنيّ بالأمر؟ إذاً، ربّما كان الأصلح لمداواتنا استخدام علم النفس الأدلريّ في «عقدة النقص». بيد أنّ التعويض عن العقدة، هنا، لا يكون بالإنجاز والسعي الى تفوّق ما، بل بالثرثرة عن الكرامة والحرمان والظلم والقهر، وممارسة كاريكاتور ذاك التقليد التوتاليتاريّ في اتّخاذ الإجراءات الزجريّة بحقّ الثقافة والأفكار والآداب. وأهمّ من هذا جميعاً، وهو ما يستحقّ أن يكون موضوع التفكير والانشغال لو أن الوضع صحّيّ، أنّ «المعركة» تدور على أرضين: أرض الجامعة «الأميركيّة» وأرض الدعم الذي قدّمته مؤسّسة «إسرائيليّة» هي «فان لير». إذاً «شحّاد ومشارط» كما يقول التعبير العاميّ الشهير، وهو «شحّاد» لا يتسوّل إلّا تحت نافذة «العدوّ» تحديداً! وهذا كافٍ بذاته لأن يجعل جباهنا الشامخة تتصبّب عرقاً... لكنّ اعتداد صاحب عقدة النقص لا يلغي غباء مهنيّاً يزيّن لأصحابه امتلاك قدرة، لحسن الحظّ، لا يملكونها، أو يزيّن لهم أنّ العالم يحكمه أساتذة قويمو الخيار. وكان مصطلح «مقاطعة»، أي «بويكوت» بالإنكليزيّة، قد استوحي من المدعوّ تشارلز بويكوت الذي كان يعمل لدى ملّاك متغيّب في إرلندا هو إيرل إرن. وفي 1880 طرد بويكوت، نيابةً عن سيّده، الفلّاحين المقيمين على تلك الأرض حين طالبوه بخفض إيجاراتهم، فقرّر الأخيرون مقاطعة بويكوت. لكنْ فقط عندما نجحت محاولة هؤلاء وامتدّت إلى قطاعات اجتماعيّة أخرى، عُزل الرجل فعلاً وقوطع. وهي تجربة تأسيسيّة تقول إنّ الإنجاز لا بدّ أن يكون هدف المقاطعة، إذا كان لا بدّ منها. أمّا أن تتولّاها سلطة أنشأها الإحباط بكلّ سلطة أخرى، فهذا غريب. لكنّ ذلك قد يكون له أثر آخر، هو أن يطالب الأساتذة الذين يريدون ممارسة التعليم في جوّ من الحرية الإدارةَ الأميركيّة للجامعة بحمايتهم من أساتذة امتلكوا سرّ اليقين. وهذا، بدوره، يمدّ حروب الجماعات الأهليّة إلى قلب المهن، أو يستدعي تدخّلاً خارجيّاً لأنّنا، كما في العراق ولبنان وغيرهما، لا نملك، غير العصبيّة، أدوات لحلّ مشاكلنا. أمّا إذا قيل إنّنا بالمقاطعة نستخدم سلاحنا القويّ المفضي إلى إنجاز، حملنا زعمٌ كهذا على التساؤل: وهل الأكاديميا والثقافة أسلحة عربيّة قويّة؟! إنّه افتراض غريب لا يصدر إلّا عن شخص طريف. * كاتب ومعلّق لبنانيّ.