مع اعتماد القائمة الجديدة لأعضاء «هيئة الحوار الوطني» يُضاف انشغال جديد-قديم الى برنامج تعبئة انسداد الأفق اللبناني بنقاشات جديدة، ولكن خصوصاً بآمال تبدَّت واهنة في ما مضى، لكن استئنافها أصبح ضرورة لشرعنة وتأطير فصل جديد من فصول ما سُمِّي سياسة «التهدئة»التي افتُتِحت في أعقاب استخدام حزب الله سلاحه في أيار (مايو) 2008. وهي تهدئة تحوّل «احترامها» اللاحق الى شرط شكلي محض على الشق الداخلي من الخطاب السياسي للفرقاء اللبنانيين بصرف النظر عن السياسات الفعلية لكل منهم ولو تضمنت كما في حالات معروفة زيادة العدّة والعديد والتحشيد، وهي العناصر التي شكلَّت المعبر الأهم لنقل الخلاف الداخلي من ميدان السياسة والعنف الرمزي الى ميدان العنف المُسلَّح. صارت «الديموقراطية التوافقية» بنسختها «اللبنانية» القسرية -البعيدة عن أصلها التاريخي- أداتها النظرية وحكومة «الوحدة الوطنية» شكلها المفروض باتفاق الدوحة و «الحوار» أداتها العملية المُفترضة. وكأنما كانت إشارة اتفاق الدوحة إلى تعهُد الموقّعين عليه بالامتناع عن اللجوء الى السلاح لحسم الخلافات غطاء لفظياً مناسباً لتأمين الصمت عن تكريس نتائج نسبة القوى التي ظهّرها استخدام هذا السلاح بالذات. وهو ما عبَّرت عنه العودة الى صيغة الدوحة بعد الانتخابات النيابية بحيث تواصل مفعول إبدال المرجعيات الدستورية التي يمكن الاستناد إليها في تقديم وتوليف طرق وعناصر الحكم وتسوية النزاعات. وبالطبع أثار تشكيل الهيئة بتركيبها وبتوقيته وبتخمين أهدافه الكثير من الضجة والتحليلات، وسيثير المزيد مما يفتح مساحة جديدة للحمية الإعلامية ويُخفِّف رتابة اليأس. وهذا متوقع وربما كان مرغوباً جزئياً. إلاَّ أن الأهم ما تحمله ردود فعل القوى المختلفة على هيئة الحوار وجدول أعمالها من دلالات تنبئ بنظرة كل منها الى تفاقم إشكالية استقلال حزب الله بقوة مُسلّحة ومُنظّمة راجحة في دولة زادت «الديموقراطية التوافقية» وحكومة «الوحدة الوطنية» في تشتت قرارها ووهن مؤسساتها وتحييد جيشها، في ضوء محاولة إدخال لبنان علناً وبشكل شبه رسمي قبل أيام من تشكيل هيئة الحوار في جبهة «الممانعة» الثلاثية عبر تظهير صورة الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله في دمشق في قمة أعلن نجاد فيها تأكيده اعتبار لبنان جزءاً من الجبهة المعنية أساساً بالنفوذ الإقليمي لكل من إيران وسورية. والأخطر أن تحويل لبنان رغماً عن دولته الى عضو ثالث في «جبهة الممانعة» تم ويتم على قاعدة تزامن قبول الاحتمالات المتزايدة للحرب عليه، ورُبما منه وفيه، واجتناب طهرانودمشق أي حرب مباشرة، على رغم حديث الأولى عن إزالة إسرائيل من الوجود فيما هي تخشى العقوبات وتناور لتأخيرها، وتهديد الثانية على لسان وزير خارجيتها السيد وليد المعلم ب «نقل الحرب الى مدن إسرائيل» إذا ما تم استهداف سورية أو جنوب لبنان فيما هي تطالب بتفعيل الوساطة التركية في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. والمشكلة أن هيئة الحوار الوطني، بقاعدة الإجماع التي تتبعها لن تستطيع على الأرجح الخروج بنتائج فعلية تُفرمِل الربط المُتسارع بجبهة «الممانعة» وتُمهِّد لإيجاد تسوية لسلاح حزب الله تُدخِله في كنف الدولة وقرارها الوطني. وما ردود الفعل الصادرة عن الحزب وحلفائه والمكلفين عادة بنقل الرسائل السورية، سوى مقدمة واضحة لذلك. فذهب مُقرَّبون من دمشق الى اعتبار هيئة الحوار «هيئة تسلية» وسارع آخرون منهم الى اتهام الرئيس سليمان بالتجاوب مع ضغوط غربية وأممية للشروع ببحث مسألة سلاح حزب الله. وقد نفى نصرالله مثل هذا الأمر لكن ليطالب بأن يكون موقف القوى السياسية والموقف الرسمي اللبناني، كما الحال في الموقف الرسمي السوري والإيراني، «موقفاً قوياً وصلباً» ثم ليُثير الشبهة على الهيئة بالقول أن نقطة قوة المقاومة هي «أنها مخبّأة»، و «هذه هي الميزة الرئيسية التي سنرى لاحقاً كيف سيحلّها الشباب على طاولة الحوار، وكيف سيجدون حلاً لهذه المعضلة؟». كما انتقد إعلام الحزب عدم وجود معايير مُوحدّة في اختيار أعضاء الهيئة بينما تمسَّك نوَّابه بالرفض العلني لكل نقاش في شأن سلاحه. أمَّا النائب ميشال عون فكان بدوره قاطعاً: «البعض يريد حصر النقاش بموضوع السلاح، ونحن ناقشنا هذا الأمر منذ 2006 والحالة العامة لن تتغير». وتعكس ردود الفعل هذه ضيقاً بالكيفية التي اتبعها الرئيس سليمان في اتخاذ قرار تشكيل الهيئة وموضوعه وموعده على رغم الترضيات التي قدّمها للفريق المذكور في اختيار الأعضاء وإبداء الاستعداد لمناقشة موضوعات أخرى بتأكيده أن «بند الاستراتيجية الدفاعية مرتبط بالعديد من العناوين الأخرى، التي تعزز المنعة الوطنية ومنها الملف المالي، الذي إذا ارتأى المتحاورون ضرورة نقاشه أيضاً أو غيره فلا مانع من ذلك». وعلى رغم أيضاً طمأنته حزب الله بإشهار سلاح «الإجماع الوطني» في وجه «بعض الأصوات الخارجة عليه» والتي «يمكن أن يستغلها العدو الإسرائيلي»، وبوعد الحزب بالعمل على عدم تعميم النقاش حول سلاحه بالقول إن «أحد أهداف الدعوة لطاولة الحوار هو أن يكون مكان أي اختلاف في الغرف المغلقة وليس في الإعلام». وعلى ذلك فإن أعمال طاولة الحوار العتيدة ستكون أمام معضلتين: الأولى، محاولة الحزب ودمشق وحلفائهما انتزاع اعتراف بشرعية السلاح تحت عنوان مواجهة التهديدات الإسرائيلية. وهو ما لم يتمكنّوا من نيله كاملاً أثناء نقاش البيان الوزاري. الأمر الذي قد يتضمَّن استخدام ضغوط متصاعدة. الثانية، خطر تحول الاستراتيجية الآنفة في حال فشلها، وهو الأمر المُرجَّح، الى تعطيل أعمال هيئة الحوار وزيادة الاحتقان السياسي-الطائفي حول موضوع السلاح في وقت استؤنف نمو هذا الاحتقان في المواضيع الأخرى المتصلة بالتوازنات الطائفية كما بيّنت تجربة طرح تخفيض سن الاقتراع في البرلمان والنقاش حول «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية». وسيكون ذلك خطيراً بمقدار ما أن استئناف أعمال هيئة الحوار كان يستهدف تخفيف التشنج الداخلي وتوجيه رسالة الى العالم بوجود دولة قادرة على التخطيط لحماية وضبط حدودها والالتزام في الوقت نفسه بمعالجة المسائل التي تخصها من تنفيذ القرار 1701 وتخفيف مخاطر حرب فعلية بعد طوفان الحروب الكلامية. كما سيكون خطيراً تأثير الفشل في ضوء النهاية الفعلية لمبدأ فصل السلطات وبالأخص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على ضوء تطبيق اتفاق الدوحة، بحيث صار أي شلل في الحكومة يعني شللاً موازياً في البرلمان والعكس بالعكس بما يؤدي الى تشوش الوضعين الدستوري والإداري فضلاً عن أن هذه المؤسسات جميعاً ليس لها في الداخل وعلى الحدود أكثر من قسم لا يزال يسيراً من السلطة.