حين يقول النائب اللبنانيّ ميشال عون إنّه، الآن، أشدّ تمسّكاً بسلاح «حزب الله» من أيّ وقت سابق، يضعنا أمام لغز. فلا تاريخ الرجل ولا حساسيّته، أو حساسيّة جمهوره، أو توجّهات محطّته التلفزيونيّة «أو تي في» توحي بهذه الحماسة لسلاح «حزب الله». والأمر، في أغلب الظنّ، بات يتعدّى النكاية لخصومه ولمكروهيه. ذاك أنّ المنصّة الراديكاليّة التي يقف عليها تشي بأنّ النكاية صارت جزءاً مُستدخَلاً فيه، جوهريّاً في توجّهاته. وقد نمت على تلك النكاية اعتبارات وعلاقات ومصالح تسبغ عليها ملمحاً استراتيجيّاً راسخاً. نحن، إذاً، أمام «ظاهرة» لا نجد لها من التسميات ما هو أدقّ من: «ذمّيّة». والذمّيّة، في تاريخ المنطقة، تقليد قديم يرتكز إلى دعامتين متكاملتين: دفع غير المسلم الجزيةَ للسلطة المسلمة، والحصول، في المقابل، على حمايتها إذ هو «في ذمّتها». والعلاقة هذه لم تكن، في التاريخ، حكراً على الحضارة الإسلاميّة. فقد عرفتها حضارات كثيرة قبل تعرّضها إلى مفهوم المواطن والمواطنة. فالمؤرّخ الفارسيّ أصلاً والعبّاسيّ زمناً، البلاذري، أقام منذ القرن التاسع نوعاً من التوازي بين الذمّيّة والتشريع البيزنطيّ، حين كان اليهود ذمّيّي المسيحيّين. وثمّة بين المؤرّخين من يرى في القوانين المتعلّقة باليهود والمسيحيّين غير الملكيّين (غير الروم) في الإمبراطوريّة البيزنطيّة، كما في القوانين التي تتناول المسيحيّين واليهود في الإمبراطوريّة الفارسيّة، مصادر قديمة لفكرة الذمّيّة كما عرفتها الحضارة الإسلاميّة. وفي الحالات كافّة، فإنّ سلوك هذه الأخيرة مع ذمّيّيها يبقى أقلّ رداءة بلا قياس من سلوك المسيحيّة الأوروبيّة مع اليهود. لكنْ كائناً ما كان الأمر، تتّسم العلاقة الذمّيّة، السابقة على المواطنة والحداثة، بضعف التسامح، وأحياناً بعدمه. غير أنّها قد تنمّي في الذمّيّ مشاعر معقّدة تجمع بين كره الإسلام والمسلمين، والخوف منهم لأنّهم أصحاب القوّة والبأس، وبين التظاهر بالحبّ الفائض لهم ما داموا يؤمّنون له «الحماية» مقابل «جزية» هو راضٍ بأن يدفعها، أو قادر على دفعها. في حالة ميشال عون يتّخذ الأمر شكلاً فاقعاً. فهو ينمّي الطائفيّة المسيحيّة ويعزّزها وينشرها محميّاً بسلاح «حزب الله» الذي يبادله «جزية» التغطية السياسيّة. غير أنّ النائب المذكور يذهب أبعد من ذلك في تظاهره بالتماهي مع «الشيعة»، مؤيّداً مقاومتهم بحماسة لفظيّة تكاد تفوق حماستهم هم. إلاّ أنّ «التيّار الوطنيّ الحرّ» لا يساهم في دفع الأكلاف الفعليّة لتلك المقاومة دماً وموتاً، مكتفياً بدفع الجزية السياسيّة، كما أنّ «حزب الله» لن يتيح له ذلك لأنّه هو الذي يتولّى بنفسه حماية «الذمّيّ». يقود ذلك إلى فرضيّة مؤلمة يتحرّك على ضوئها الإيقاع العونيّ، بل الإيقاع الذمّيّ الذي يتجاوزه إلى عدد من النصارى المتحلّقين حول الممانعين، والمتزلّفين لهم. ومؤدّى تلك الفرضيّة أنّ رفع قيمة الجزية السياسيّة يمنحنا القبول ك «وطنيّين»، فيما الذين يموتون ليسوا من طائفتنا بل من «الشيعة» (الذين لا نجاهر إلاّ بحبّ كاذب لهم). وإلاّ كيف نفسّر الانتقادات الحادّة لنائبة مسيحيّة حين تقترن بزوج من الطائفة التي نحالفها سياسيّاً ونحصل على حمايتها؟. موتوا ونحن نرسمكم شهداء. هذه هي حكمة الذمّيّين الممتلئين إحساساً بذمّيّتهم والراسخين في قناعتهم بأنّ الماضي لا يمضي. هي لعبة مثيرة حقّاً للغثيان.