ليس الخوف من العدو ما يقلق هؤلاء المقاتلين، بل الرهبة في انتظار وصول المشاهدين، إنهم جنود كولومبيون أعضاء في فرقة سيرك جوال يسعون لإظهار صورة مختلفة عن الجيش في بلدهم، حيث يدور أقدم نزاع في أميركا اللاتينية. وقدمت فرقة «سيرك كولومبيا» لتوها عرضاً في مدينة تريبيتا (وسط) التي تعد ثلاثة آلاف نسمة، في المنطقة التي تضم مسقط رأس غونزالو رودريغيز غاتشا، أحد كبار تجار المخدرات في تسعينات القرن الماضي. ويمكن مشاهدة رجال الجيش في مهمة جديدة من نوعها، لا يطاردون فيها أعضاء الميليشيات أو عصابات إجرامية التي تضم في صفوفها عناصر سابقين في فرق شبه عسكرية، أودت أعمالهم بحياة مئات آلاف الأشخاص خلال 50 عاماً. وحلت مستحضرات التبرج محل التمويه. هم حوالى 20 جندياً تخلوا عن بزتهم العسكرية المرقطة ليرتدوا زي المهرج أو البهلوان داخل خيمة سيرك ملونة بهدف توجيه رسالة فرح وأمل. ويقول ليوناردو سانتاماريا أحد أعضاء الفرقة، إن «هذا العمل مثير للاهتمام لأننا لسنا فنانين محترفين»، قبل القيام بعرض بهلواني على ارتفاع خمسة أمتار في الجو على مرأى من حوالى 800 متفرج مدهوشين سرعان ما ضجت الخيمة بتصفيقهم. قد يبدو ذلك مفاجئاً، لكن بعيداً من ساحات المعركة، هؤلاء الجنود المميزون عليهم أيضاً إظهار شجاعة في وجه الجمهور. ويقول سانتاماريا، الشاب المفتول العضلات الذي يطل للمرة الأولى في استعراض السيرك إن الناس «تشعرنا بالقلق، لدينا خوف من حكم الجمهور». وشارك الكثير من جنود «سيرك كولومبيا» في دوريات في مناطق مصنفة معاقل لمتمردي «القوات المسلحة الثورية لكولومبيا» (فارك) أو جيش التحرير الوطني، وهما أبرز حركتي تمرد من اليسار المتطرف تم تأسيسهما في ستينات القرن الماضي وتعدان حالياً بحسب السلطات حوالى 8000 و2500 مقاتل على التوالي. وفي داخل خيمة السيرك، يواجه عسكريون تحديات مختلفة تماماً: حركات بهلوانية، عروض توازن، أغان وعروض هزلية. وأصغر الأعضاء في السيرك لا يزالون في مرحلة الخدمة العسكرية الإلزامية. ويقول دانيال بورخا وهو جندي انتقل للعمل كمهرج «السيرك أصبح حياتي». وبفضل قصر قامته وخفة حركته، أصبح هذا الشاب من أركان الاستعراض. يعيش المشاهدون حالاً من عدم التصديق في بادئ الأمر، بطبيعة الحال. ويشير مدير السيرك السرجنت أوسكار فرنسيسكو ييلا إلى أنه «في البداية، ينظرون إليهم بخشية، هذا منطقي. جنود كولومبيون وسيرك؟ أين العلاقة بينهما؟». ولكن إذا كان ثمة قاسم مشترك، فهو بالطبع التدريب القاسي والحثيث في كلا الموقعين. ويؤكد سانتاماريا «أنني أقوم بتمارين تقنية لساعتين يومياً وأجري تدريبات طوال الوقت». ومرت 20 سنة على إطلاق هذه المبادرة، لكن الجولة تأتي في توقيت خاص. فمنذ أسابيع عدة، اهتزت المؤسسة العسكرية الكولومبية بسلسلة فضائح تتعلق بقضايا فساد وعمليات إعدام من دون محاكمة قضائية. ويقول ييلا: «هناك الكثير من الجنود الكولومبيين، والصالحون أكثر عدداً من أولئك الذين سلكوا الطريق الخطأ»، مضيفاً: «أن يكون ثمة خروف ضال لا يعني أن المؤسسة بأكملها ينخرها الفساد». ويبدو أن «سيرك كولومبيا» الساعي إلى إعطاء صورة محببة عن الجيش، يصيب هدفه إذ أن غالبية المتفرجين يقيمون هذه التجربة إيجابياً. وتقول روزا الدانا بعد انتهاء عروض السيرك «هؤلاء الجنود الصغار ظرفاء جداً. يروق لي لطفهم واهتمامهم». وخارج خيمة السيرك، يعود واقع أعمال العنف في كولومبيا إلى الواجهة، إذ يسهر جنود ببزاتهم العسكرية ومع أسلحتهم على سلامة العرض.