تنتابني احياناً افكار غريبة. مشاعر متهورة. رغبة متسرعة في الاحتفال. كأنني لم اتعلم. ولم استخلص العبر. وربما هو اليأس. يدفع الغريق الى التعلق بأي قشة. على رغم التجارب والتجاريب. بعض الأخبار يصيبك في الصميم. يوقظ مناجم وطنيتك المكبوتة. فرحت بإعلان اعادة تشكيل هيئة الحوار الوطني. التشكيلة نفسها فتح في عالم الأزياء. قلت انني لن افسد البهجة بالملاحظات. ولن انقب في ارشيف المؤتمنين على المستقبل. ومن يدري فلو فعلت لعثرت على الأهوال. اسكت الصحافي في داخلي. هذه بلادي. ويجب ان اكون ايجابياً ومهذباً. ثم ان هذه الحجارة من هذا المقلع. ولا يمكن اطلاق الحوار الوطني بحجارة مستوردة. اعجبت بهذه الالتفاتة الى المجتمع المدني. احب المجتمع المدني. وحزب "الخضر". ودعاة البيئة. وحزب المنجمين الذي يحتل الشاشات اللبنانية. واتمنى الا تكون ابراج المشاركين لعبت دوراً في اختيارهم. وأحب ايضاً نقابة مزارعي الشمندر السكري. وجمعية الحفاظ على الفراشات والحساسين. ونقابة اهل القلم. وجمعية اهل الندم. سمعت النبأ فخرجت الى الشرفة. قلت ان اللبنانيين سيخرجون الى الشوارع في عرس عفوي. وإن حلقات الدبكة ستنعقد. وإن سياسيين شباناً سيتسلقون اكتاف مواطنين بائسين. وسيلقون خطباً شديدة التفاؤل. وسيقولون ان اللبنانيين يحبون بعضهم بعضاً. وإن الحديث عن مشكلات بينهم تستلزم حواراً معمقاً لا اساس له. وإنه مجرد وجبة مسمومة من مطابخ "الموساد" وأخواته. وتخيلت النساء يرشقن المحتفلين بالأرز بعد الزغاريد. ودموع الوفاق الوطني تغرق الشوارع وتملأ حفرها الكثيرة. وأن مطار بيروت يختنق بالطائرات المتزاحمة في أجوائه. وأن اللبنانيين الذين هاجر اجدادهم الى البرازيل والأرجنتين وأفريقيا هزهم النبأ فحزموا اغراضهم وأولادهم وعادوا. وتخيلت اعضاء هيئة الحوار يستقبلون العائدين متضامنين متضافرين كالبنيان المرصوص. وأن الأسهم النارية تغطي الجمهوريات اللبنانية. والمفرقعات تدوي. وأن رصاص الابتهاج كان مسك الختام. لم يحدث ما توقعته. خيبتني الجماهير. كأنها تعرف القصة. اصابتني حالة من الهبوط. مر في بالي ان هيئة الحوار كانت موجودة ولم تنجب ما يسر القلب او يبعد الضيم. وأن الحوار مفتوح منذ ولادة هذا الكيان السيء الحظ. وأن اللبنانيين كانوا يغادرون طاولة الحوار كل عقد تقريباً. لخوض حرب اهلية او اهلية اقليمية. وكانوا يعودون دائماً الى طاولة الحوار والإعمار بانتظار موعد الانهيارات المقتربة. كان الليل جميلاً فعلاً. من حسن الحظ ان الليل ليس مرهوناً بالحوار الوطني. ومثله الفصول. كانت هناك في الجو روائح غريبة. رائحة حوار وطني سيتسلى الإعلام بنقل مجرياته ورياضاته الذهنية واللغوية. ورائحة احتقار وطني لا يمكن التستر عليه. احتقار للمواطن العادي وحقه في الحياة والاستقرار والخدمات. لا ابالغ. فحين تلتقي كل القوى في حكومة وحدة وطنية ويكون الشلل حصيلة حفلة العرس هذه يحق لنا الحديث عن الاحتقار الوطني الشامل. حكومة تضم كل الفعاليات والفاعلين وتعجز عن تعيين موظف او اتخاذ قرار. حكومة تحولت سريعاً الى مجرد منتدى للحوار الوطني. وما يقال عن الحكومة يقال ايضاً عن المجلس الموقر فهو مصاب قديم بمرض الحوار. ثمة رائحة ثالثة هي رائحة الاحتضار الوطني. لا ابالغ. يشعر الزائر ان شيئاً ما يحتضر في لبنان. ان غياب القرار والاستسلام للحوار المعزز بشلل دائم واحتقار اكيد يفتحان الباب واسعاً امام احتضار ملامح اساسية من ملامح البلد. حالة الحوار الإعلامية لا تحجب تباعد اللغات والمشاعر بين المجموعات اللبنانية بعد التغييرات العميقة والهزات العنيفة التي عاشها لبنان.