صدر حديثاً عن دار «العين» في القاهرة كتاب «التأويلية ونصر حامد أبو زيد»، لباحثين من مصر والمغرب والجزائر والسودان، وقدّم له وزير الثقافة المصري السابق عماد أبو غازي. الكتاب نتاج عمل مؤتمر بحثي حمل العنوان نفسه، عُقد في أواخر العام 2014 تحت رعاية مؤسسة «نصر حامد أبو زيد للدراسات الإسلامية»، وهو عبارة عن 14 بحثاً لعدد مماثل من الباحثين. وكانت الدكتورة ابتهال يونس زوجة المفكر الراحل ورفيقة دربه دعت الى إنشاء المؤسسة بغية استكمال الطريق الذي بدأه وأفنى فيه حياته. يقول أبو غازي في مقدمة الكتاب: «كان نصر حامد أبو زيد علامة من علامات الاستنارة في الفكر العربي المعاصر، ربما كان معتزلياً جديداً، حاول باجتهاداته تجديد الخطاب الثقافي العربي والإسلامي، فواجهته قوى الظلام، وتصدت لمحاولته بالتكفير والملاحقة القضائية بدلاً من المواجهة الفكرية التي تعجز عنها هذه القوى». ويشير الباحث المصري محمد جبريل إلى أن المنجز الفكري لأبي زيد كان جهداً تأويلياً في الأساس، والتأويل الذي قدّمه للتراث الديني لم يكن تأويلاً مكتملاً ومغلقاًَ يطرحه على المتلقي ويطلب منه أن يمتثل له، بل كان مفتوحاً يسمح بوجود مستويات متعددة للقراءة، قاصداً من ذلك أن الجديد الذي كان يحاول التأكيد عليه هو استحالة وجود تأويل واحد للنص. فكل نص سواء كان دينياً أم قانونياً أم أدبياً، من الممكن أن يكون له عدد كبير من التأويلات، والمشكلة التي تعرض لها التراث الديني منذ انقضاء القرن الرابع الهجري هي محاولة الترسيخ لوجود تفسير واحد وحيد للنص المقدس، ينبغي الإتكاء إليه، وفي شكل غير مباشر كانت تتم الاستعاضة به عن النص الأصلي، ومن ثم شيطنة كل من يدّعي وجود تأويل مخالف، والشيطنة هنا تأتى بمعنى التكفير. وفي هذا السياق يؤكد الباحث السوداني مجدي عز الدين حسن أن المحاولات التي بدأت باستبدال كلمة التفسير بكلمة التأويل، كان لا بد من أن تنتهي إلى هذا الأمر. مجهودات نصر حامد أبو زيد قامت بحسب الباحث السوداني على علم «الهيرمونيطيقا»، فيما يحاول تأكيد أن هذا المفهوم هو أوسع وأشمل من مفهوم «تأويل النص»، فهو ينطلق من مجرد محاولة فهم النص، إلى محاولة فهم الفهم. بمعنى أن «الهيرمونيطقا» تهتم في الأساس ببحث الكيفية التي يمكن من خلالها أن نفهم النصوص، وهي في ذلك تحاول وضع القواعد العامة وتوحيدها من أجل فهم أي نص، أياً كان نوعه، على أساس أن الجسد الذي تتخذه هذه النصوص هو اللغة. وبناء على اشتراكها في هذا الجسد فإن من الممكن وضع مبادئ شاملة لها مع الاحتفاظ بخصائص كل نوع على حدة، إضافة إلى اعتبار «الهيرمينوطيقا» للنصوص كافة تاريخية الطابع بما في ذلك النصوص الدينية، وانطلاقاً من ذلك، فإن كل نص بحسب هذا العلم يعد خاضعاً للتأويل بناء على الظرف التاريخي الذي تشكل أو ظهر فيه. وما يحاول نصر حامد أبو زيد التنويه به على مدار مشروعه الفكري، بحسب محمد جبريل، هو التأكيد على قدسية النص الديني، وقابلية النص لتوليد تأويلات مختلفة لا تنفي قدسيته، لأن قدسية النص مستمدة من قدسية المصدر وهو الذات الإلهية، وبناء على خلفية معتزلية، تشير جهود أبو زيد الى أن الله - عز وجل - بمقتضى عدله ومقتضى حكمته، لم يكن ليشرع أمراً إلا وكان في مصلحة العباد، وكان قابلاً للفهم العقلي. وهو الأمر الذي يختلف كثيراً عن النظرة السائدة للتراث الديني، والتي تعتمد تقديم النص على العقل، وإرجاء الفهم نتيجة لعلو الذات الإلهية عن الاستقصاء، فكون النص قابلاً للفهم، يجعله قابلاً للتحليل أيضاً، وإثبات أن تكون الذات الإلهية تحرت بمقتضى عدلها ألا تتحدث بشرائع تعلو على قدرات العقل البشري في الفهم ما يجعل من النص المقدس مرتبطاً في لغته بالظرف التاريخي والثقافي للعصر الذي تنزل فيه الوحي، ولطبيعة المجموعات البشرية التي ظهر بينها هذا الوحي أولاً، وذلك من أجل مراعاة الإفهام، وثانياً لضمان المناسبة للحاجات والمشكلات التي كانت آنية في هذا الوقت، وثالثاً لضمان إمكان تحقق الأوامر والنواهي الإلهية على أرض الواقع. وبناء على ما سبق، فإن تأويل النص يخضع لفهم الظرف التاريخي والثقافي الذي ظهر فيه، وأنه لاستخراج تأويلات مناسبة لإنسان هذا العصر وثقافته ينبغي فهم هذه الملابسات في كلا العصرين والثقافتين. يقول الباحث مجدي عز الدين حسن: «إذا تفحصنا استراتيجية أبو زيد التأويلية، فسنجده يتجاوز المنظور الذي يتعاطى مع التراث باعتباره واحداً ومتجانساً، فالتراث من منظور أبو زيد ليس واحداً، بل هو اتجاهات وتيارات عبّرت عن مواقف وقوى اجتماعية وعن أيديولوجيات ورؤى مختلفة، فالتراث إذاً ليس له وجود بمعزل عن واقع حي يتبدل ويتغير، يعبّر عن روح العصر، وتكوين الجيل، ومرحلة التطور التاريخي، التراث هو مجموعة من التأويلات التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته الخاصة والأصول (النصوص) الأولى لهذا التراث تسمح بهذا التعدد، لأن الواقع هو أساسها الذي تكونت عليه». كما يحاول الباحث التنويه بملحوظة مهمة في منهج أبو زيد، وهي أنه ينبغي التمييز بين النص الأصلي وهو القرآن الكريم، والنص الثاني الذي جاء لشرحه وهو السنّة النبوية المشرفة، وبالتالي فإن اجتهادات الأجيال المتعاقبة من العلماء والفقهاء والمفسرين تعد نصوصاً ثانوية أخرى جاءت تعليقاً على النص الأصلي أو النص الثاني. والمشكلة في التراث بدأت – بحسب أبو زيد - حينما تم التعاطي مع النصوص الثانوية بوصفها نصوصاً أصلية، والنظر إليها باعتبارها إطاراً مرجعياً في ذاتها.