دقائق ويعلو صوت الصافرة استعداداً للانطلاق. شباب وفتيات متطوعون يوزعون السترات الواقية الصفراء. أطفال مدارس يقفون بانتظام. موظفو شركات. موظفو بنوك. مهندسون. رجال أعمال. سيدات وربات بيوت. تجمهروا جميعاً في نفس المكان والزمان بانتظار إشارة الانطلاق. كل في مكانه على أتم الإستعداد، وفجأة يدوي صوت الصافرة إيذاناً بالانطلاق وتبدأ الأفواج البشرية بالتحرك مشياً على الأقدام ملتزمة الخطة المسارية. ثم يدوي صوت قوي يطلب من الأفواج التحرك يميناً قائلاً «اتجهوا إلى اليمين». الناظر من نافذة سيارته في شوارع عمان لامحاً هذا الزحف البشري العماني يهيأ له من النظرة الأولى أن هذه مسيرة حاشدة أو تظاهرة. لكن الأفواج البشرية ما هي إلا ماراثون لمجموعة «المشي السريع» وهي مبادرة شقت طريقها عبر «الفيس بوك» ونمت نمواً سريعاً حتى أصبحت نشاط عماني لافت ومميز. فكرة «المشي السريع» أطلقها المهندس موفق مرقة قبل ثلاث سنوات ونصف سنة على موقع «الفيس بوك» وبدأت بمجموعة من الأصدقاء والأقارب لم يتعدَ عددها آنذاك عشرة أصدقاء. يقول مرقة «أذكر أول مرة مشينا في الشارع كان عددنا خمسة. وصل العدد الآن إلى 1200 شخص» لافتاً إلى أن «فكرة المشي السريع لم تحتج إلى ترويج بل روجت نفسها بنفسها. فالفكرة الجيدة لا تحتاج إلى جناحين بل تحلق وحدها». وليس بغريب أن ينتشر مثل هذا النشاط الجماعي الرياضي في عمان. فرغم كثرة النوادي الرياضية وانتشارها أخيراً إلا أن ثقافة المشي في الشارع الأردني في الهواء الطلق غير موجودة وغير مألوفة وتندرج تحت «ثقافة العيب». وهذا تماماً ما أراده مرقة تغييره بتجذير ثقافة المشي في الشارع الأردني وخصوصاً في مدينة مثل عمان تعد «طاردة للمشاة» بسبب العوائق التي تجعل ثقافة المشي منقرضة في عمان حيث يشير مرقة إلى أن «أكثرية المشاة تشتكي دائماً من ضيق الأرصفة وكثرة الأشجار التي تعيق المشي وهذه حقائق معروفة لدى جميع ساكن عمان». من المؤكد أن فكرة «المشي السريع» لاقت رواجاً. فجولة واحدة في شوارع عمان أيام النشاط كفيلة بأن تؤكد أن عدوى «المشي السريع» انتقلت إلى كثير من الناس على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية وميولهم حتى بات موعد اللقاء مقدساً عند الكثيرين ينتظرونه ويستعدون له. وما أن يتم إعلان موعد اللقاء عبر «الفيس بوك» يبدأ الكثيرون من الأعضاء بالاستعداد، حيث يحرص مدير أحد الشركات هاني سعيد على المشاركة في نشاطات المجموعة قدر المستطاع يقول هاني «إن المشاركة في المشي ضمن مجموعة تجربة فريدة من نوعها ولها نكهة خاصة وذلك لأن النشاط الجماعي يحمل نوعاً من التشجيع ويولد نوعاً من التواصل الإجتماعي». هاني الذي انتسب إلى مجموعة «المشي السريع» قبل حوالى عام يرى أن «المشي يجعله ينسى مشاكله اليومية ويصفي ذهنه ويخلصه من التوتر «قائلاً «أشعر بعد العودة من المشي بأنني عدت شخصاً جديداً ومرتاحاً نفسياً». وهذا ما يؤكده مرقة أيضاً حيث يوضح أن «المشي السريع يولد صفاء ذهنياً ويلمس حياة الناس لأنه مريح للأعصاب ويولد استرخاء كبيراً يخلص الناس من أعباء وروتين الحياة اليومية ومشاكلها وهمومها». كما أن المشي يساعد على ترك العادات السيئة كالتدخين والابتعاد عن المقاهي والأراجيل بحسب مرقة. ويعتبر الشاب رامي الأخرس مثالاً إيجابياً على ذلك فمنذ إنضمامه إلى مجموعة المشي السريع لم يعد يدخن الأرجيلة. ويشير الأخرس إلى أنه «لا يحب الحركة وكسول ومدخن ولم يكن يتوقع أن يمارس المشي في الهواء الطلق» لافتاً إلى أنه في البداية «لم يتقبل الفكرة ولكنه سرعان ما عاد وتقبلها وأدمن عليها» مفضلاً الإدمان على المشي على الإدمان على التدخين. ولا يقتصر نشاط «المشي السريع» على فئة الشباب والرجال بل يضم كافة أطياف المجتمع حيث يؤكد مرقة في حديثه أن السيدات يشكلن الفئة الأكبر من المجموعة حيث تسعى سيدة الأعمال رنا بركات للحفاظ على صحتها ورشاقتها بالمشاركة في نشاطات «المشي السريع». بركات التي انضمت إلى المجموعة منذ البدايات سمعت عنها من خلال أصدقائها وأعجبت بالفكرة موضحة «لقد تعرفت من خلال المشي عبر شوارع عمان على مناطق لم أكن أعرفها من قبل فأنا معتمدة على السيارة كلياً ومن الصعب رؤية التفاصيل عبر النوافذ». التعرف الى مناطق عمان وإعادة اكتشاف المدينة وتعزيز الانتماء الى المكان كلها أسباب جعلت مرقة يتبنى فكرة «المشي السريع» وجعل هذا النشاط مجاني ومفتوح لدى كافة شرائح المجتمع الذي لم يخذل مرقة الى درجة أن مجموعة من الفتيات والشباب تطوعت للمشاركة في كل نشاط للمساعدة في التنظيم وتوفير قواعد السلامة العامة للمشاركين وتجنبيهم السير في الشوارع الرئيسية للحفاظ على السلامة. يرمي أعضاء «المشي السريع» همومهم ومشاكلهم مرتين في الأسبوع، يخلع كل منهم مكانته الاجتماعية، يخرجون من روتين حياتهم اليومي الممل لينصهروا في بوتقة واحدة لمسافة 12 كيلومتراً في الهواء الطلق وخلال ساعتين من الزمن يعود أعضاء «المشي السريع» إلى بيوتهم محملين بالتفاصيل العمانية بعيداً من نوافذ سيارتهم وبيوتهم ومكاتبهم.