«العطر الفرنسي» هو عنوان أحدث أعمال الكاتب السوداني أمير تاج السر، (الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2010). وكانت رواية «توترات القبطي» هي باكورة أعماله التي نجح فيها أن يصور لحظة كابوسية تموج بكل المخاوف التي تسيطر على مناطق كثيرة من العالم العربي الآن، وهي لحظة استيلاء الجماعات الدينية المتطرفة على السلطة، والتغيير الجذري الذي تحدثه في حياة البشر. لم يلجأ أمير تاج السر في تلك الرواية إلى توظيف الإطار الأيديولوجي العام الذي يحكم فكر هذه الجماعات، بمعنى أنه لم يجعل الشخصيات تنطق بأي خطاب سياسي، بل حول الحبكة الدرامية ذاتها إلى تعبير عن مفردات ذلك الخطاب الفاشي. وفي ذلك تمكن من تصوير السطحية والعبثية التي يمكن أن تقلب حياة البشر رأساً على عقب عبر الاستيلاء على مقدرات القوى، وهو ما يتحول بعد ذلك إلى شكل من أشكال الترغيب والترهيب، ناهيك عن تصويره لنموذج الشخصية المتحولة التي تمتطي ركاب القوة أياً كان توجهها. لم تتمكن تلك الجماعات الدينية المتطرفة من السيطرة على تلك البلدة السودانية الصغيرة إلا بسبب إهمال الحكومة لمسؤولياتها على كل المستويات، وأهمها التغاضي عن الكم الهائل من التخلف الذي أصبح من سمات المجتمعات الصغيرة المنعزلة في العالم الثالث. وعلى رغم من أن الكاتب لم يسم الحكومة ولم يحدد الزمان إلا أن الرواية نجحت في رسم الوضع الكارثي الذي يمكن أن نصل إليه في لمح البصر. ويبدو أن هذا الهمّ، همّ الإهمال وغياب المسؤولية وتفشي الاستبداد والأوضاع المعيشية المتدنية (فقر، بطالة، جوع، فساد، نفاق، تخلف اجتماعي) هو الذي يبني عليه الكاتب عمله الجديد «العطر الفرنسي». ومن باب الدقة، تعتبر «العطر الفرنسي» تنويعة جديدة على «توترات القبطي»، حتى أن القبطي بتوتراته يتحول إلى شخصية ميخا ميخائيل في «العطر الفرنسي». يمثل العنوان بذاته وجود الغرب منذ البداية، فالرواية في شكل عام تطرح تأثير الغرب على العقل العربي، وتبتعد عن فكرة علاقة الذات بالآخر، بل تركز على علاقة الذات بنفسها، مما يجعل العطر مرآة متشظية ليس إلا. لكنها مرة أخرى تعتمد على تقديم كل تلك الأفكار من طريق الحبكة الدرامية والشخصيات المتعددة التي يتحول بعضها إلى أنماط، وهو ما يساعد على تقديم صورة كاملة لمجتمع حي غائب. ودلالة الاسم واضحة، فهذا الحي بروائحه ومنازله ومعيشة أهله والعلاقات الاجتماعية وعلاقات القوى داخله غائب تماماً عن نظر الحكومة واهتمامها وعن الخريطة الإنسانية بأكملها. ولا تمثل شخصية موسى رجل الأمن (بالأحرى المخبر) إلا مفارقة كبيرة، فهو يكتب تقارير عن كل ما يحدث داخل الحي (بما في ذلك لون فرشاة الأسنان)، وعلى رغم ذلك لا يحدث أي شيء. الثبات الكامل هو ما يميز هذا الحي، بل إن هذا الثبات يفرز شكلاً من أشكال الاستغناء عن كل ما يقع خارج الحي، مما يعني أن هناك اكتفاء ذاتياً. هناك حليمة المرضعة التي تقرأ الكف، ومنزل آل سميكة الذي تسكنه إحدى عائلات الجن، ومنعم شمعة تاجر الشنطة الذي يجلب البضاعة الرخيصة من الصين، وموسى خاطر رجل الأمن، وحكيم نبوي الذي يدعو لاجتماعات عند وقوع أحداث طارئة وابنه بديع، بل إن الحي لديه قائده السياسي المنتظر الرحالة حاكم عذابو وهو يترأس حزباً فيه ثلاثة أعضاء، عركي البقال، ميخا ميخائيل القبطي الذي رفض الهجرة مع أهله الى أستراليا، شاكر تعيس (لأنه لم يتمكن من الحصول على رشفة ماء زمزم التي بعث بها أحدهم الى الحي) الذي سيتزوج سلافة الجميلة، أيمن الحضاري (نسبة الى كونه يفهم في مواقع الدردشة على الانترنت)، وفرفور المغني. هكذا تتحد الشخصيات لتجعل الرواية قادرة على تقديم حبكة لا تحتاج إلى العالم الخارجي، فالسلوكيات معروفة، ولا شيء يدخل في بند اللامتوقع أو غير المألوف. وفي وسط كل ذلك هناك الشخصية الرئيسة علي جرجار، وهو أيضاً الراوي الخمسيني الذي يوزع وعد الزواج على النساء اللواتي يلتقي بهن، ويجد تسلية كبيرة في الذهاب الى ديوان المحافظة كل فترة ليحصل على أي خبر جديد. في وسط هذا الثبات والسكون الآسن - مثل المياه التي تملأ الحي - يقع علي جرجار ضحية لشائعة قام هو نفسه بنشرها، من دون أن يدرك المغزى من إطلاقها، مع أن المسؤول – مبروك - أخبره «أن تأصيل الشائعات ونشرها في الأحياء الفقيرة، مهنة رسمية لدى الدولة، وأن النبوي كان يتلقى راتباً شهرياً على ذلك، النبوي ينشرها، وموسى يكتبها تقارير، وبقية الأجهزة تتصفح التقارير لإجراء اللازم» (ص61). لم يفهم علي أنه حصل على عمل النبوي، وبالتالي لم يدرك أن خبر مجيء كاتيا الفرنسية الى حي غائب ليس إلا شائعة أطلقتها الحكومة وصدقها أهل الحي. ومن هنا تبدو الرواية وهي تتخذ إطاراً مشابهاً - ومختلفاً في آن واحد - لرواية المصري يوسف القعيد «يحدث في مصر الآن» (1976). فقد تم إطلاق شائعة قيام الرئيس الأميركي بزيارة قرية مصرية، وهو ما حوّل سكون القرية إلى حركة نشطة استعداداً لاستقبال الرئيس. وكانت هذه الزيارة - أو بالأحرى الشائعة - هي التي أظهرت كل مواطن الضعف في القرية والحالة المتردية التي يعيش فيها أهلها. وبالمثل، في رواية «العطر الفرنسي» أدت شائعة مجيء كاتيا الفرنسية إلى قلب الحي رأساً على عقب. وكان أول تغيير هو قيام علي جرجار بتزييت الأبواب ليتوقف صوت الصرير. ثم كان أن اشترى صابونة جديدة، وفرشاة أسنان، وقام عركي البقال بإطلاق اسم كاتيا على المحل، وكتب حكيم نبوي قصيدة فيها قبل أن يموت. وعلق ميخا ميخائيل كل آماله عليها لتسهل له الهجرة، وبدأ السعي المحموم للحصول على أية معلومات عن كاتيا. كان أيمن الحضاري هو خير من يقوم بذلك، فأحضر لعلي جرجار - الذي اعتبر أنه المسؤول الأول والأوحد عنها - صوراً لثلاث «كاتيات»: ممرضة ومناضلة ومغنية. فقرر علي جرجار أن كاتيا المنشودة هي الممرضة. وعند هذه النقطة خرجت الأمور عن السيطرة. فإذا كان الحي بأكمله قام بالتخطيط لحياته (إذا جازت كلمة تخطيط في هذا السياق) على أساس مجيء الفرنسية، فإن علي جرجار تطور الأمر معه واعتبر أنها قادمة من أجله. فبعد أن توجه الى المسؤول في المحافظة مرات عدة وحصل على إجابات مبهمة تفيد أن كاتيا في ضيافة الحكام الأفارقة، وبعد أن مرت شهور لا يحدث فيها أي شيء في الحي سوى محاولات ميخا الحصول على هجرة، قرر علي جرجار أن يتزوج كاتيا! هكذا قام علي بتوظيف ذاكرته الحديدية لتساند خياله في قصة زواجه من كاتيا، «حتى لو كانت صورة، حتى لو كانت خيالاً. كنت ممتلئاً بالعشق حتى القاع...» (ص.97). يحتل هذا الزواج المتخيل، الموازي للواقع بدقة شديدة، الثلث الأخير من الرواية، إذ يمارس علي جرجار كل تفاصيل حياته، بما في ذلك العلاقة الزوجية، على أساس وجود كاتيا. وهو لا يتوانى عن الحديث معها أمام الجميع، وعن اصطحابها الى زيارات. تبدو الطرافة في الرواية عندما يصور الكاتب أعظم لحظات التواطؤ من كل أهل حي غائب. فقد أدركوا جميعاً الجنون الذي لحق بعلي جرجار، لكنهم لم يستاؤوا من ذلك، بل أعانوه على التمادي في الجنون. فقط عندما تطور الأمر إلى ممارسة العنف - اعتقاداً من علي أن كاتيا تخونه وأن الآخرين يغازلونها - كان لا بد من إيداع علي في مصحة. في حي غائب الذي لا يعرف من العالم الخارجي سوى المقاطع الإباحية التي تنشر على الانترنت ورنات الهاتف المحمول لأنه بلا رصيد دائماً، تتحول كاتيا - أو إشاعة مجيء كاتيا الفرنسية - إلى القشة التي يتعلق بها الغريق (والغرقى كثر في الحي). وفي أثناء الانتظار الذي لا يجلب إلا مزيداً من الانتظار (لا بأس لأن الوقت لا معنى له في حي غائب) لا ينشغل أهل الحي إلا بالقشرة الخارجية من المسألة، أي الصورة التي يجب أن يظهروا بها أمام الفرنسية، كل الهوس الذي أصاب الحي لم يكن له علاقة بالجوهر بل فقط بالصورة، التي كان الجميع يسعى الى تحويلها إلى صورة براقة تخفي ركام الرجعية والتخلف والمياه الآسنة والروائح العطنة التي تسيطر على الحي. إلا أن الانتظار دفع علي جرجار إلى الاستسلام الكامل لقوة الخيال التي ساعدته على إنشاء حياة بديلة مع الفرنسية، كأن الإشاعة كانت المحفز الرئيسي لعقل علي جرجار. وهو في ذلك لا يختلف عن ميخا ميخائيل الذي يئس من الحصول على فرصة للهجرة إلى الغرب فأشهر إسلامه، واستسلم لعملية الختان، فهو كان يسعى أيضاً لإقامة حياة بديلة. في كل الأحوال كان الغرب يمثل وسيلة الخلاص، وعندما ثبت فشل الفكرة تشبثت الشخصيات بأحلامها فكان الخيال العبثي الذي يعوض تردي الواقع.