لكل من روسيا والصين والدول الأوروبية أدوار ضرورية لتجنيب منطقة الشرق الأوسط حروباً لربما تأتي عليها عن غير قصد إذا استمرت أجواء التهويل وخطابات التصعيد والتوعد. ليس هناك ما يفيد بأن الحرب آتية الى المنطقة بقرار مدروس، لا من قِبَل إسرائيل ولا من قِبَل إيران ولا عبر شركاء وحلفاء إيران في فلسطين أو العراق أو لبنان. هناك خوف من حروب سائبة تحدث بسبب استدراج أو غطرسة، انتقام أو استباق، مباشرة أو بالوكالة. وهذا ما يجب أن تتنبه له الأسرة الدولية بمجملها وأن تتخذ الخطوات لمنع حدوثه. للولايات المتحدة بالتأكيد أدوار أساسية في التطورات المختلفة في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، إنما من الخطأ والخطر ترك إدارة باراك أوباما في واجهة «الفشل» مع إيران أو مع إسرائيل بسبب تعنت كل منهما في تعاطيها مع هذه الإدارة. فإدارة أوباما تكاد تصبح مطوّقة من الداخل مما قد يدفع بها الى تلبية دعوة الجمهوريين والمحافظين الجدد الى عمل عسكري ضد إيران والى احتضان أعمى لكل ما تريده إسرائيل مهما كان ذلك مكلفاً للمصلحة القومية الأميركية وللعلاقات مع العالمين العربي والإسلامي. انها مُطوَّقة من الخارج، عملياً، بسبب إصرار إيران على إعادة يد أوباما الممدودة إليها مصفوعة على خده، وبسبب اعتزام إسرائيل إفشال حل الدولتين واختلاق كل ما من شأنه أن يحطّم تلك العلاقة الطبيعية التي أرادها أوباما مع العالم الإسلامي. قد يؤدي التطويق المزدوج الى إخراج باراك أوباما من البيت الأبيض بولاية واحدة – وهذا أمر يجدر بروسيا والصين والأوروبيين التفكير به وبما يليه ويعنيه للعلاقات الثنائية التي سعى وراءها باراك أوباما مع هذه الدول وكذلك للعلاقات الدولية. إنما الملح اليوم هو ضرورة التنبه لعواقب السماح للممانعين بإملاء الخطى التي تدفع الى حروب قد لا تكون تقليدية والأرجح أن تكون مكلفة للجميع من دون استثناء. أدوات منع الانجرار الى ذلك المصير ليست فقط أميركية وعربية وأوروبية، وإنما هي أيضاً روسية وصينية بامتياز. ولقد حان وقت استخدام جميع القنوات والأدوات المتاحة لتجنيب المنطقة الحروب السائبة والخطط التدميرية الجهنمية. في البدء، للتأكيد وللإيضاح، إن طبول الحروب التي تُقرَع في المنطقة في هذه الفترة لها رائحة التهويل والضجيج فقط، لا غير. القراءة المعمقة لما يحدث على الساحة الدولية عبر علاقة الدول الكبرى مع بعضها البعض وعلاقاتها مع اللاعبين في الشرق الأوسط والخليج لا تفيد بأي عدٍ عكسي الى حروب ولا تفيد بمواجهات عسكرية في الوقت الحاضر. أقصى الحدود في هذه المرحلة قد تأخذ شكل عقوبات على إيران وضغوط لمفاوضات جدية بمرجعية واضحة على إسرائيل. هناك تفاهم على خطوط عريضة في شأن الملفين، إيران وإسرائيل، انما هناك ضعضعة في كليهما. الجهود الأميركية في الملفين يبدو انها تدور في حلقة مفرغة وفي فراغ زمني يمليه هذان اللاعبان إما للمماطلة أو للإنهاك أو لفرض ما يريده كل منهما كأمر واقع في نهاية المطاف. بالنسبة الى المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية والجهود التي يبذلها المبعوث الأميركي الخاص جورج ميتشل، إن ما يشوب هذه الجهود ليس فقط المواقف التعجيزية للاعبين الإقليميين وانما أيضاً النمط الزمني الذي يتبناه ميتشل الذي يقارب عمره الثمانين. أمضى الرجل تسعة شهور ولم يتوصل بعد الى صيغة للتفاوض مقبولة للطرفين. صانع عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد قبل عشرين سنة، جيمس بيكر، أمضى تسعة شهور في رحلات مكوكية وضغوط حقيقية أسفرت عن سابقة في العلاقات العربية – الإسرائيلية. ميتشل يبدو مقتنعاً بأن المفاوضات بطبيعتها تستغرق الوقت الطويل ولا يبدو في عجلة. واقع الأمر أن عليه أن يفكر بوتيرة زمنية أسرع وإلا فإن رئيسه سيغادر البيت الأبيض مهزوماً و «فاشلاً» بلا سلام أو ولاية ثانية. بغض النظر عمن ارتكب الأخطاء التكتيكية ومن لعب الأوراق الإعلامية، يبقى باراك أوباما أول رئيس أميركي أتى الى المنصب بعزم على معالجة جدية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وقال في مطلع عهده للدول الأربع الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي – الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا – كما للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي: لنكن شركاء في صنع السلام في الشرق الأوسط. في السابق، كانت المشكلة في رأي روسيا، مثلاً، في إصرار الولاياتالمتحدة الأميركية على الاستفراد بملف النزاع العربي – الإسرائيلي وإيجاد الحلول له. ما فعله باراك أوباما هو أنه تخلى عن الاستفراد ووجّه دعوة للشراكة الدولية. وهذا أحد أسباب غضب اللوبي الإسرائيلي منه وعليه. اليوم يحاول مبعوث باراك أوباما ترتيب محادثات تقاربية Proxinity talks بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو كان حريصاً على إحاطة «اللجنة الرباعية» المعنية بدفع عملية السلام الى الأمام علماً بكل شاردة وواردة. هذه اللجنة المكونة من الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا لم تلعب الأدوار المطلوبة منها، بل وقفت متفرجة في كثير من الأحيان. حان وقت الكف عن التفرج ووقت تحمل مسؤولية الانتماء الى «الرباعية» بهدف بذل الجهد الجماعي في صنع السلام. قد تكون الصين راغبة في عضوية «الرباعية» وقد تكون من أراد أساساً عدم الانتماء والتورط في هذا الملف الذي لا يحتل مرتبة في أولوياتها. أما أوروبا وروسياوالأممالمتحدة الممثلة بالأمين العام بان كي مون فإنهم جميعاً اليوم مطالبون بالكف عن الاختباء وراء «الدور الأميركي» لتجنب الاستحقاقات. بان كي مون همس عبر وكيله للشؤون السياسية، لين باسكو، هذا الأسبوع أمام مجلس الأمن بما يمكن اعتباره الصيغة التي قد تمكن السلطة الفلسطينية من الموافقة على المحادثات التقاربية. دعم المحادثات التقاربية وتحدث بلغة المرجعية للمفاوضات المطلوبة فلسطينياً. قال باسكو: «إننا مستمرون في التشديد على أهمية القيام بكل ما هو ممكن لضمان أن تؤدي المفاوضات، ضمن إطار زمني واضح، الى اتفاقية تحل جميع المسائل المعنية بالوضع النهائي (للأراضي الفلسطينية)، بما في ذلك القدس والحدود واللاجئين والأمن والمستوطنات والمياه». هذه مرجعية. وقال: «إننا مستمرون في التزامنا بإنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967 وبإنهاء النزاع عبر قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش بسلام وأمن الى جانب إسرائيل، وبسلام إقليمي شامل طبقاً لقرارات مجلس الأمن والاتفاقات السابقة وخريطة الطريق والمبادرة العربية للسلام». هذه مرجعية. صحيح أن هذه مبادئ ومرجعية قدمها الأمين العام للأمم المتحدة عبر وكيله الى مجلس الأمن، إنما يجب على بان كي مون شخصياً إبرازها وتكرارها بلا خوف أو تردد. المطلوب هو الجرأة على الوضوح وعلى إعلان هذه القضايا مرجعية من وجهة نظر الأممالمتحدة كطرف في «اللجنة الرباعية». وهذا تماماً ما يجب على روسيا والاتحاد الأوروبي أن يقوما به. لربما أوروبا المبعثرة في كثير من الازدواجية عندما يتعلق الأمر بالمسألة الفلسطينية، غير راغبة أو غير قادرة على تبني موقف جماعي ببساطة إدراج مرجعية المفاوضات التقاربية. هذا لا يعفيها من المسؤولية الأخلاقية، وقد حان الوقت لمطالبة أوروبا بالكف عن الاختباء وراء مساعداتها المادية للفلسطينيين كمبرر لمواقفها التراجعية. ولربما بين أفضل الطرق لتحقيق ذلك هو أن تبادر الدول العربية القادرة مادياً على دعم السلطة الفلسطينية والوكالات الدولية مثل الأونروا والشعب الفلسطيني بطريقة مؤسساتية على النسق الأوروبي. أما روسيا فإنها لطالما لعبت السكك المتعددة في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، فحاولت أن تكون شريكاً في رعاية المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الوقت الذي كانت تقوي حركة «حماس» لتقويض السلطة الفلسطينية عمداً. فموسكو حسبت حساباتها الإقليمية ضمن استراتيجية علاقاتها المركزية مع إيران وسورية، وبالتالي مع «حزب الله» ومع «حماس»، انما من دون أن تتخلى أبداً عن مركزية علاقاتها الإسرائيلية. ولهذا في مواقفها تباين وتذاكٍ يؤديان أحياناً الى التشجيع على الممانعة والى ارتكاب الأخطاء. حرب العراق حرب أميركية وقعت على رغم حجب الأسرة الدولية عن الولاياتالمتحدة الصلاحية الشرعية التي سعت وراءها في مجلس الأمن. روسيا والصين حاولتا ردع الحرب عبر حجب الصلاحية لكنهما شجعتا الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين على المكابرة والتعنت والحسابات الخاطئة وسوء التقدير وجر الحرب على العراق. حدث ذلك لأن الدولتين أشعرتا صدام حسين بأنه فوق المحاسبة بدلاً من استخدامهما العلاقة المميزة معه لجره الى التفكير العميق بدلاً من جر الحرب الى بلاده. لربما لم يكن في ذهن روسيا أو الصين التضليل المتعمد للقيادة العراقية، انما ما حدث كان نتيجة تضليل على كل حال وهذا تماماً ما يجب تجنبه في الملف الإيراني حيث لروسيا والصين علاقة مميزة مع القيادة الإيرانية تستخدمانها الآن، بنسب متفاوتة، للإقناع والترغيب بسكة التفاوض والديبلوماسية ومن أجل شراء الوقت للجميع. ما يجب أن تسمعه القيادة الإيرانية من روسيا والصين يجب أن يكون واضحاً وحازماً من ناحية ما هو المطلوب منها نووياً وإقليمياً وما هي حدود حمايتها من المحاسبة وأطر المقايضة. فالنظام في إيران يهدد نفسه وأهله وجيرانه ويتعهد بمعاقبة العالم إذا حاول أحد إسقاطه. ما يُقدّم إليه، عملياً، هو الاعتراف الدولي به و «بشرعيته» مقابل لجم طموحاته النووية والإقليمية، لكنه يتعالى على المعروض ويريد أكثر. انه بذلك يجازف بنفسه وببيئته لأن الإفراط في التعالي والتهديد والمكابرة والعناد قد يؤدي الى حروب تحدث خطأً أو نتيجة غلطة. إذا كانت القيادة الإيرانية تُغالي وتهدد بالحروب لتساوم على صفقة أفضل تضمن لها بقاء النظام ومعه ضمان سيطرتها على العراق ونفوذها في فلسطين ولبنان عبر «حماس» و «حزب الله» والصمت على قدراتها النووية المتطورة، فقد حان الوقت لجلسة جدية بين القيادتين الروسية والصينية مع القيادة الإيرانية للجم التوقعات والحسابات الإيرانية المبنية على قراءتها لعلاقاتها الصينية والروسية. هكذا تساهم روسيا والصين جدياً في المساعدة على تجنيب منطقة الشرق الأوسط والخليج حروباً سائبة وتدميرية. انما يجب أن ترافق ذلك رسالة بالغة الوضوح والجدية الى القيادة الإسرائيلية تحذرها من التهور العسكري مع إيران أو عبر لبنان بخطوط حمر واضحة، وبشراكة أميركية وأوروبية. رسالة لها شق آخر عنوانه أن إسرائيل أيضاً وليس إيران فقط مرشحة لسحب غطاء إعفائها من المحاسبة بجدية.